التعليم والتنمية في المملكة العربية السعودية
--------------------------------------------------------------------------------
التعليم والتنمية في المملكة العربية السعودية
- المقدمة
- التخطيط والتنمية
- المفهوم الدولي للتنمية
- التنمية البشرية والمعاير الدولية
- تاريخ التعليم في المملكة العربية السعودية
- مرحلة النشأة والتأسيس
- مرحلة النمو والانتشار
- مرحلة الانتشار الواسع وتنوع المصادر
- مرحلة المراجعة والتطوير
- الجهود والخطط التنموية للمملكة
- الآثار التنموية للتعليم في المملكة العربية السعودية
- البعد الاجتماعي
- البعد الاقتصادي
- البعد المعرفي والتقني
- رؤية مستقبلية: التعليم ومسئولية التغيير
• المراجع
التعليم والتنمية في المملكة العربية السعودية
المقدمة:
قال الله تعالى في كتابه العزيز في أول آية نزلت على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم:" أقرأ باسم ربك الذي خلق" فكانت بذلك الرسالة الأولى للمسلمين هي البحث عن المعرفة وتدبر أمورها منذ اليوم الأول لظهور الإسلام. وقد اشتملت كثير من آيات القرآن الكريم على الدعوة إلى التدبر والتفكر في أمر الكون والأنسان والخلق والحياة والموت وغيرها من مظاهر المعيشة في الأرض ، مما يظهر بجلاء أهمية العلم والمعرفة في الدين الإسلامي. وعلى الرغم من كون البحث عن المعرفة غريزة لدى الإنسان فأن الإسلام أثار هذه الغريزة ووجهها من اجل تنمية هذا الإنسان وتطويره وتمكينه من الاستفادة القصوى من المصادر الطبيعية في الأرض وخيراتها بل وجعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة. لقد ارتبط الإسلام بالتربية تعليماً وتهذيباً وتوجيهاً، حتى صارت التربية خاصيةً مميزة لقيم الإسلام الخالدة. والتربية بالمفهوم الإسلامي، هي تربية ذات أفق واسع وأساس عميق، فهي تفتح العقل على حقائق الوجود، وتحثّه على التأمل. وهي تربية هادفة إلى بناء الفكر، لإعداد الإنسان المسلم المتوازن والمتكامل، كما أنها تستجيب للمتطلبات الأخلاقية للتنمية، بقدر ما تلبّي الاحتياجات العلمية والتطبيقية لهذه التنمية، مما يحقق الترابط الوثيق والمتزامن بين التنمية البشرية، وبين تنمية مختلف الموارد الأخرى. وعبر العصور التاريخية المختلفة قامت الدول بتوجيه هذه الغريزة المتأصلة لدى الناس لتحقيق أهداف نموها وتطورها وتميزها بين الدول حسبما تقتضيه ظروف السياسة المحيطة بها والتحديات التي تواجهها.
وقد حددت المملكة العربية السعودية الغاية العامة من التعليم بأنها :" فهم الإسلام فهما صحيحا متكاملا وغرس العقيدة الإسلامية ونشرها وتزويد الطالب بالقيم والتعاليم الإسلامية وبالمثل العليا وإكسابه المعارف والمهارات المختلفة وتنمية الاتجاهات السلوكية البناءة وتطوير المجتمع اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وتهيئة الفرد ليكون عضوا نافعا في بناء مجتمعه" (1). كما تم تعريف التعليم العالي، وهو الامتداد المتخصص للتعليم العام، بأنه "مرحلة التخصص العلمي في كافة أنواعه ومستوياته رعاية لذوي الكفاية والنبوغ وتنمية لمواهبهم وسدا لحاجات المجتمع المختلفة في حاضره ومستقبله بما يساير التطور المفيد الذي يحقق أهداف الأمة وغاياتها النبيلة" (2). ومن هذين المنطلقين تمت صياغة الأهداف العامة للتعليم بالمملكة بشكل يكفل الوصول إلى هذه الغايات النبيلة في ظل التغير الدائم للظروف الدولية المحيطة بها.
التخطيط والتنمية
يتلازم التخطيط مع كل جهد موجه للفرد أو الدولة كسلوك تلقائي، ولكنه في غالي الأحيان لا يكون ذا أثر فعال إلا عندما يكون مجهودا هادفا من اجل التنمية الشاملة لرفاهية الفرد والمجتمع. ولعلنا نسترجع العناصر الرئيسة لهذا المجهود المسمى بالتخطيط حتى نرى وجه الصلة بينه وبين التنمية . فالتخطيط يعني الاختيار لمسار محدد من السياسات العامة كما يعني أيضا تخصيص ميزانيات وموارد معينة لإنجاز الخطط . التخطيط يعني أيضا تحقيق الأهداف المحددة لتناسب طموحات الدولة، كما يعني بالطبع التفكير المستقبلي لتحقيق الأهداف على مراحل حسب حجمها(3). بهذه العناصر يتضح لنا أن التنمية والتخطيط متلازمان فالتنمية هي أهداف طويلة المدى ويتم تحقيقها على مراحل عبر خطط تنموية محددة وتراجع بعد كل فترة. يبقى بطبيعة الحال تحديد مفهوم وشمولية التنمية وماذا يقصد بهذه الكلمة.
المفهوم الدولي للتنمية
إن مراجعة التراث العلمي حول موضوع التنمية تظهر لنا التنوع والتباين الشاسع في المفهوم للتنمية. فمن تحديد المفهوم تاريخيا بمدى تطور الدول في الجانب الصناعي وذلك يعود بشكل رئيس لكون كل من كتب عن التنمية ينتمي إلى مجموعة الدول الصناعية والذين يسمون أنفسهم بالعالم الأول (4).إلى تحديد المفهوم بتطوير قدرة الدول والشعوب على النمو و توفير وسائل العيش الكريمة من مصادر طاقة وانتاج وغذاء وكماليات وغيرها (5). وفي المقابل هناك المفهوم الاقتصادي الإداري للتنمية والذي يقول بأن التنمية الحقيقية للشعوب هي تلك التي تقوم على التطوير المركز للقدرات الخاصة والمهنة للفرد لأن البشر هم الثروة الحقيقة للشعوب (6). هناك أيضا التعريف المعرفي للتنمية والذي مفاده أن المجتمع ينمي مصادره البشرية بالتعليم والتدريب لأفراده من اجل التنمية في هذا المجتمع. أي أن التنمية الحقيقية تكون بالاستثمار في تطوير وتنمية الإنسان والذي بدوره يقوم بتنيمة مجتمعه (7). ومن أجل ذلك ظهر تيار فكري حديثا يدعو لأعادة النظر في خطط التنمية الشاملة للدول على أساس أن هذه الخطط التنموية تصمم بحيث يكون الهدف الأساس هو التنمية البشرية بالمقام الأول وان التطور المادي والاقتصادي والصناعي يأتي بعد بناء قاعدة عريضة من ذوي التأهيل العالي من المواطنين (
. وقد تبنت بالفعل كثير من الدول هذا المسار مما أعاد خلط الأوراق فيما يسمى بتصنيف الدول تنمويا حسب المعايير الدولية السائدة والذي أدى بدوره إلى إيجاد معيار جديد لتصنيف الدول تنمويا(9).
التنمية البشرية والمعايير الدولية
يعتقد الكثير أن مؤشر التنمية هو في معايير التمدين أو المدينة وهو ما يعرف بالنمو الحضري و مدى ما تسجله الدول أو الأمم من علامات التنمية الحضرية المبنية بشكل خاص كالمدن والطرق والجسور والسدود والمطارات والمصانع وغيرها. و بذلك أصبح الإنجاز المادي هو المؤشر على التنمية في تجريد خالص للجانب المادي ناسين أو متناسين الجانب البشري و الذي هو الباعث الحقيقي لكل هذه المنجزات. و عليه فلعل من المناسب تحديد هذا المفهوم لدينا قبل الاسترسال في حديثنا هذا . فالتنمية الحقيقية كمؤشر للرقي البشري أو الحضاري تكمن في مدى نمو الجانب المعرفي و الخبراتي للأنسان ، و لذلك فإننا نجد أن كثيراً من المنظمات الدولية حالياً قد اعتمدت أسلوبا حديثا لقياس نمو الدول، كما أسلفنا، يبعد عن المقاييس القديمة كالتصنيف السابق لدول العالم إلى دول نامية و دول متطورة و دول صناعية، او دول ذات تخطيط مركزي الخ. بل إن احدث مؤشر للتنمية اعتمدته هيئة الأمم المتحدة في عام 1990 هو مؤشر التنمية البشرية hdi . والذي يعتمد بشكل رئيس على الحالة التعليمية أو المستوى التعليمي للشرائح السكانية بالدول حسب معيار معين (9,10 ). وقد ظهرت بعد ذلك لبعض المنظمات الدولية ذات الأهداف الخاصة والغير رسمية أساليب أخرى متعددة لقياس التنمية في دول العالم تعتمد بشكل رئيس على عدد من المميزات البشرية منها الحالة التعليمية ومستوى المعرفة والحالة الاجتماعية والأسرية وغيرها من الخصائص السكانية الأخرى (10).
نخلص من هذا إلى أن المفهوم الحديث للتنمية لم يعد ذلك المفهوم الذي كنا نسمع به سابقاً من حيث تصنيف الدول بناء على دخولها أو مستوى مقدراتها أو تجهيزاتها الأساسية أو نسبة العمران بها ،الخ. بل اصبح المعيار هو الإنسان ومدى نموه وتطور في الجانب المعرفي والخبراتي ، محدداً بذلك المفهوم الجديد للتنمية وعلاقتها اللصيقة بالتعليم . و حيث أن التخطيط يعرف كما ذكرنا في أبسط صورة بأنه البحث عن أفضل الوسائل لتعديل وتحسين الوضع القائم للوصول إلى صورة مثلى في المستقبل بأقل ما يمكن من المصادر والموارد . فهو البحث عن الأفضل وهو السبيل العملي لتنفيذ التنمية ، فلا مبرر للتنمية إذا كان الوضع القائم محققاً للغرض ومستوفياً لمتطلبات المجتمع .
من هذا يتضح التزامن الفلسفي بين التعليم والتنمية المادية المحسوسة والتي تعكس حقيقة التنمية البشرية عبر المنجزات المدنية والحضرية التي يقوم سكان المدن غالبا بإنشائها وهذا في اعتقادنا سبب الخلاف أو اللبس في العلاقة الجدلية بين التنمية والتعليم فأحدهما نتاج للأخر ولكنهما مرتبطان بشروط الاستيطان الحضرية وهي الأمن والغذاء والمسكن والتي أيضا يمكن توفيرها بشكل افضل عند تطوير مهارات الفرد، فهي كدورة مستمرة. وكما هو معرف انه لا يوجد تاريخ أمة أقامت حضارة وشيد ت منجزات لم تكن أصلا مستوطنة للمدن أو القرى على أقل تقدير. وهكذا نكون قد أوضحنا مفهومنا للتنمية وعلاقته الوثيقة بالتعليم، و ننتقل إلى الحديث عن محرك التنمية الأول بالمملكة ، التعليم .
تاريخ التعليم في المملكة العربية السعودية
تمتد جذور نظم التربية والتعليم الحالية بالمملكة إلى أعماق بعيدة في التاريخ الإسلامي ومنذ نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتركزت نشاطات التعليم قديما بالمساجد ثم الكتاتيب أو دور تعليم القراءة والكتابة وقراءة القرآن. وقد شهد التعليم قبيل بدء التعليم النظامي في المملكة ثلاث مراحل تتمثل
فيما يلي:
1- تعليم تقليدي موروث يتمثل في الكتاتيب وفي حلقات الدروس في المساجد وغي مجالس العلماء في أنحاء البلاد.
2- تعليم حكومي يمكن أن يطلق عليه أنه تعليم نظامي باللغة التركية في مكة والمدينة.
3- تعليم تقليدي في جوهره ولكنه يحاول التجديد عن طريق إدخال بعض العلوم الجديدة في مناهجه ويتمثل هذا التعليم خاصة في بعض المدارس الأهلية الموجودة بشكل أكثر في المنطقتين الشرقية والغربية من المملكة(11).
مرحلة النشأة والتأسيس
البداية الحقيقية للتعليم النظامي بالمملكة كانت في عام1344 ه (1925) عندما أنشأت مديرية المعارف العامة حيث بدأ الزحف التعليمي الذي شمل مراحل التعليم وأنواعه أيمانا من الملك عبد العزيز بأن التنمية بعد توحيد البلاد لا تتم بدون التعليم. وفي عام 1346 ه تم إنشاء مجلس المعارف والذي بالتعاون مع المديرية المذكورة وضع أول نظام تعليمي للبلاد لتغيير شكل التعليم الذي كان يعتمد بشكل كبير على الكتاتيب وبقايا غير مكتملة لمدارس الأتراك والهاشميين. وفي عام 1345 ه تم افتتاح المعهد العلمي السعودي ومدرسة تحضير البعثات في 1355ه ودار التوحيد في 1364ه كما أصدرت المديرية عددا من النظم التعليمية وفي عام 1370ه (1950) تأسست الإدارة العامة للمعاهد العلمية. وقد بلغ عدد المدارس التي فتحت في عهد الملك عبد العزيز312 مدرسة ابتدائية حكومية و14 مدرسة ابتدائية أهلية و11 مدرسة ثانوية حكومية و4 مدارس ثانوية أهلية ومدرسة مهنية واحدة وثمانية معاهد لأعداد المعلمين وكلية للمعلمين وكلية للشريعة وست مدارس لتعليم اللغة الإنجليزية ومدرسة مسائية واحدة لتعليم الآلة الكاتبة. ويلاحظ أن السمة السائدة لهذه المرحلة هي الإنشاء والتأسيس لهوية جهاز التعليم وتحديد معالم سياسته. (12)
مرحلة النمو والانتشار
في عام 1373 ه (1953) تحولت مديرية المعارف إلى وزارة المعارف برئاسة خادم الحرمين الشريفين
الملك فهد بن عبد العزيز كأول وزير لها فقام بتشكيل أول هيكل تنظيمي للوزارة وأنشأ إدارات وأقساما جديدة. وفي هذه المرحلة بدأت حملة وضخمة للتوسع في فتح المدارس والمعاهد بمختلف فئاتها وأنواعها كما ظلت ميزانية هذه الوزارة تتزايد وتتوسع حتى أضحت من أهم وزارات الدولة شأنا وأكثرها إنجازا. وفي هذه المرحلة أيضا تم تأسيس الرئاسة العامة لتعليم البنات عام 1380 ه(1960) ثم تلتها وزارة التعليم العالي في عام 1395ه(1975) وأخيرا المؤسسة العامة للتعليم الفني والتدريب المهني في عام 1400 ه (1980 م) . وهذه المرحلة تميزت بالنمو الأفقي لكافة أنواع التعليم وعلى مساريه العام والعالي ، كما تميزت بوجود أهداف محددة وضعتها خطط التنمية الوطنية التي زامنت الجزء الثاني من هذه المرحلة (13) .
مرحلة الانتشار الواسع وتنوع المصادر
في هذه المرحلة بدأت وزارات أخرى وجهات حكومية وأهلية تساهم في الأشراف على بعض أنواع التعليم مثل وزارات:الدفاع والطيران، والداخلية، والصحة، والعمل والشؤون الاجتماعية، والشؤون البلدية والقروية، والحرس الوطني، والبرق والبريد والهاتف، والخارجية، وكلها تسير حسب السياسة التعليمية التي ترسمها اللجنة العليا للتعليم في المملكة.وقد تميزت هذه المرحلة بتشعب التوسع الأفقي والعمودي في افتتاح المدارس والمعاهد والكليات والجامعات المتخصصة في كل الفروع وفي معظم مناطق المملكة وعلى عدة محاور تشمل التعليم العام والتعليم العالي والتعليم الفني والتدريب المهني. والحقيقة أنه لا يسع المقام لسرد البيانات الإحصائية حولها. وقد نجم عن هذا التوسع وبهذه الكيفية بعض المشاكل التنظيمية التي استوجبت إنشاء مرجعية موحدة لهذه الجهات المختلفة، فعلى الرغم من مرجعية الوزارات إلى مجلس الوزراء إلا أن التنسيق بين كل هذه الجهات لتحقيق الموائمة بين متطلبات التنمية من القوى العاملة المدربة وبين مخرجات هذه الجهات استدعى إنشاء عدد من المجالس التنظيمية كمجلس القوى العاملة ومجلس التعليم العالي واللجنة العليا لسياسة التعليم (14).
مرحلة المراجعة والتطوير
بعد صدور النظام الأساسي للحكم في عام 1412ه وتوجه الدولة إلى مراجعة كافة أنشطة ومهام الجهات الحكومية، فقد صدرت التوجيهات إلى وزارات الدولة ومنها الأجهزة المعنية بالتعليم لأحداث التغييرات اللازمة للتمشي مع روح النظام المذكور. وقد كان لهذا التوجه أثرا إيجابيا على المستوى الدقيق في المناهج والفلسفة العامة لتعليم الفرد، وعلى المستوى العام في الأداء الوظيفي للمعلم والجهاز التربوي. وقد تزامن هذا بطبيعة الحال مع التوجه الدولي للعولمة وثورة المعلومات والتي استدعت إعادة النظر في أسلوب التعامل مع اكتساب الطالب للمعرفة وطريقة استفادته منها ووسائل تمكينه من التمييز بين الملائم منها للقيم الإسلامية والعربية وتلك التي لا تلائمها. وبناء على ذلك فقد تم إعادة النظر بشكل خاص في التركيبة الهيكلية لوزارتي المعارف والتعليم العالي وتم إيجاد عدد من الوظائف القيادية العليا بهما على مستوى وكلاء وزارة وذلك لمساعدة الوزراء للقيام بمهامهم وأعباء وزاراتهم بعد التوسع والتخصيص الجديد لمهام هاتين الوزارتين وخصوصا بعد صدور المراسيم المؤسسة لمجلس التعليم العالي ولنظم التعليم العالي والتعليم العام. وقد تميزت هذه المرحلة بتكوين أجهزة تطويرية متخصصة في تلك الوزارات تعنى بالتطوير والتقويم المستمر. وقد كان نصيب الوزارتين من هذا التطوير الشيء الكثير، علاوة على إنشاء وحدات متخصصة بهما للتطوير والمتابعة واعادة صياغة التعديلات المطلوبة على السياسة التعليمية لكلا الوزارتين من خلال التنسيق مع الجهات المعنية الأخرى عبر مجلس التعليم العالي ومجلس الوزراء. وقد تميزت هذه المرحلة الحالية أيضا بوجود حاجة حقيقية لمراجعة سياسات التعليم من منظور الضرورة الملحة لأعادة النظر في أداء أجهزة التعليم الحالية للموائمة بين مخرجات نظام التعليم والتدريب بالمملكة ومتطلبات التنمية لعمالة مدربة متخصصة في سوق العمل السعودي.
الجهود والخطط التنموية للمملكة
نظرا لتراكم إيرادات مبيعات النفط التي كانت تزيد بمعدلات مطردة ابتداءً من أوائل عام 1390ه (1970م)، فقد قررت حكومة المملكة العربية السعودية استعمال تلك الفوائض لتنمية الموارد الاقتصادية الطبيعية والبشرية في إطار خطط خمسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وقد تم تنفيذ ست خطط خلال الأعوام الثلاثين الماضية، ونحن الآن في الخطة السابعة التي بدأت في عام 1420ه وتنتهي عام 1425ه (2000-2004م). وفيما يتعلق بمنهج التخطيط وأساليبه، فقد تم اختيار المنهج التخطيطي الشامل بأبعاده الاقتصادية والاجتماعية والتنظيمية، مما أدى إلى التعجيل بنمو القطاعات المختلفة للاقتصاد الوطني، والذي كان يعاني - في بداية عهد المملكة بالتخطيط - من هيمنة واضحة لقطاع النفط بصفته مصدراً وحيداً للدخل والثروة، وافتقار البنية الإنتاجية للتنوع، وضعف الهياكل المؤسسية والإدارية والبنية التحتية، وقلّة أعداد الموارد البشرية الوطنية المؤهلة، وقد تغير هذا الوضع تماماً في الوقت الحاضر، فأصبح الاقتصاد السعودي يتمتع بتنوعٍ ملحوظ في القاعدة الاقتصادية ومصادر الدخل، وتم إكمال البنية الأساسية والخدمات العامة التعليمية منها والصحية، وتطورت الموارد البشرية بدرجة سمحت بسعودة أغلب الوظائف الحكومية، وبدأ التوجه نحو المزيد من سعودة وظائف القطاع الخاص، وتهيئة الاقتصاد الوطني للتعامل بمرونة وكفاءة مع المتغيرات والمستجدات على الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية، وبصفة خاصة منظمة التجارة العالمية التي بات انضمام المملكة العربية السعودية إليها وشيكاً. ومنذ البدايات الأولى للتخطيط، وضعت الخطط المتتالية تنمية قدرات الإنسان السعودي وتحقيق طموحاته وتلبية احتياجاته وتحسين مستوى معيشته هدفاً أسمى للتنمية، فضلاً عن الحرص على امتداد حركة التنمية لتشمل جميع القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، في جميع مناطق المملكة. واستندت المملكة في تنفيذ استراتيجيتها التنموية على المبادئ والقيم الإسلامية، والحرية الاقتصادية، وسياسة الاقتصاد المفتوح. كما ركزت الخطة السادسة 1415-1420ه بشكل خاص على أهمية تحقيق الأهداف الثلاثة التالية:
- تنمية القوى البشرية، وذلك بزيادة الطاقات الاستيعابية للجامعات، ومؤسسات التعليم الأخرى، والتدريب المهني، والكليات التقنية، مع التركيز على النوعية وتطوير المناهج في جميع مستويات التعليم والتدريب لتواكب متطلبات التنمية واحتياجات القطاع الخاص.
- تحقيق الكفاءة الاقتصادية في القطاعين الحكومي والخاص، لأنها شرط أساس لنجاح سياسات تنويع القاعدة الاقتصادية، وترشيد الإنفاق الحكومي.
- تعزيز دور القطاع الخاص وتحفيزه على الاستثمار لزيادة إسهامه في عملية التنمية من خلال السياسات والمبادرات التنظيمية، والبدء في تنفيذ برامج التخصيص.
وتدل التجارب الدولية في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية على أن الثروة الحقيقية للدولة تتمثل في مواردها البشرية والمهارات الإنتاجية للقوى العاملة فيها التي أصبحت تسمى برأس المال البشري. لذلك، أولت خطط التنمية المتعاقبة في المملكة أهمية كبرى لتنمية الموارد البشرية من خلال دعمها للنمو المستمر في التعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي والعالي وكذلك التعليم الفني والتدريب المهني قبل الخدمة وفي أثنائها. وكانت النتيجة زيادة كبيرة في توظيف السعوديين وارتفاعاً منتظماً في مستوى المهارات والإنجازات المهنية للقوى العاملة السعودية، وتوضح المؤشرات التالية أهم الإنجازات في مجال تنمية الموارد البشرية(15) :
- تم افتتاح (
جامعات و(35) كلية للبنات، و(12) كلية تقنية و(68) معهداً للتعليم الفني ومركزاً للتدريب المهني و(3082) مدرسة ثانوية و(5896) مدرسة متوسطة و(12196) مدرسة ابتدائية على مدار الثلاثين عاماً الماضية.
- ارتفع عدد خريجي الثانوية العامة وخريجاتها من (3745) في عام 1389/1390ه (1969م)، إلى أكثر من (165) ألف في عام 1419/1420ه (1999م).
- ارتفع إجمالي عدد خريجي التعليم الفني والتدريب المهني من (417) في عام 1389/1390ه (1969م)، إلى (13832) في عام 1419/1420ه (1999م).
- ارتفع عدد الملتحقين بالمؤسسات التعليمية من نحو (600) ألف طالب وطالبة في عام 1389/1390ه (1969م) إلى (4748) ألف طالب وطالبة في عام 1419/1420ه (1999م) أي بمعدل زيادة سنوية مقدارها (7%)، في المتوسط.
الآثار التنموية للتعليم في المملكة العربية السعودية
لقد ترك التعليم بصمات واضحة على خارطة المملكة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتنموية يشكل عام ولعلنا نأخذ بعض الأمثلة لإيضاح ما نعني بهذا.
1.البعد الاجتماعي: تعتبر عملية التعليم حافزا كبيرا للاستقرار حيث يتولد لدى أفراد المجتمع إحساس بالأمن الوظيفي المأمول والذي ينشأ غالبا لدى من يلتحق ببرامج التعليم، ويذكر بعض التربويين ( 16 ) أن هناك حقيقة واضحة مفادها أن الأفراد وعلى الأخص الذكور ينظرون إلى أن التعليم وسيلة أساسية للحصول على عمل ، وبعد فشل المرء في نوع العمل الذي بنى عليه آماله بعد عمل شاق وتضحيات عديدة سوف يشعر بالإحباط والمرارة ، بحيث يصبح النظام الاجتماعي هدفاً لاتجاهاته العدائية . وقد كان من أهم أعداء الملك المؤسس الملك عبد العزيز الفقر والجهل والمرض، وكلها تقوض دعائم المجتمع وتخلخل كيانه ولكنها أيضا يمكن التخلص منها بالتعليم، وهذا ما كان. ونحن نذكر رأي بعض الفقهاء القائل بأن الفقر خطر على أمن المجتمع وسلامته واستقرار أوضاعه وقد روي عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال : " عجبت لمن لا يجد القوت في بيته ! كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه " والفقر خطر أيضاً على سيادة الأمة وحريتها واستقلالها فالبائس المحتاج لا يجد في صدره حماسة للدفاع عن وطنه الذي لم يوفر له الطعام والأمن!(17). علاوة على ذلك فأن عملية انتظام الطلاب من سن 6-24 سنة بسبب وجود برامج نظامية تتطلب منهم الالتزام حيال المدارس أو المعاهد لفترات زمنية محددة هي في الحقيقة ضمانة اجتماعية وأمنية مؤكدة لاستغلالهم لأوقاتهم بشكل مناسب، وإحصائيات جرائم الأحداث لدى وزارات الداخلية خير شاهد على ذلك، فبدلا من أن يشتغل من هم في سن الدراسة بما يضره ومجتمعه يمكن له الاستفادة من وقته في الحصول على تعليم ومهارات تساعده وتؤهله لدخول سوق العمل وكسب العيش الكريم وتحقيق الاستقرار النفسي والاجتماعي والاقتصادي.
2.البعد الاقتصادي: يتضح مما سبق أن المردود العملي المباشر للتعليم على المستوى الفردي هو اقتصادي بحت ، حيث يتوقع لكل من يحصل على تعليم وتدريب متخصص بمهارات محدده ويجتاز الاختبارات المقررة لنيل الدرجات الجامعية أو الشهادات المختلفة أن تزداد قدرته الاقتصادية على الكسب ويصبح مطلوبا بمهاراته في سوق العمل. ، وهذا ما أشار له علماء الاقتصاد حيث تتعدى قيمة هذه القدرات الشخص نفسه إلى كونها ثروة الأمة التي ينتمي إليها الفرد (18) ، فيما يؤكد بعض الخبراء على أهمية التعليم الفني باعتباره وسيلة فعالة لتخريج اليد العاملة الفنية التي تمارس كل عمليات الإنتاج ، ويرى أن أبلغ أنواع رأس المال قيمة هو رأس المال الذي يستثمر في الإنسان ، والتعليم يكون استثماراً منتجاً لرؤوس الأموال عندما يتجاوب حقاً مع حاجات التنمية. ويكفينا مثالا على ما نقول أن المملكة تستقدم من العمال الماهرة والمدربة عددا كبيرا جدا،حتى أن نسبة الوافدين بلغت في عام 1416ه 27 % من سكان المملكة (19). ، ولهذا آثاره السلبية على الاقتصاد والمجتمع مما ينعكس على أمن البلاد، كما أن وجودهم في البلاد يستنزف مبالغ ضخمة كان بالإمكان توفيرها وصرفها بالمملكة لو كانت اليد العاملة الوطنية المدربة متوفرة بكمية ونوعية كافية، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتعليم والتدريب المتخصص حتى تتم عملية السعودة الكاملة لسوق العمل وتخفيف العبء الاقتصادي على الدولة.
3.البعد المعرفي والتقني: التزامن بين اكتساب المعرفة كنتيجة طبيعية للتعليم و المهارة في نقل التقنية إلى البلاد أمر مهم وحيوي وهذا ما أكدت عليه سياسة التعليم في المملكة ؛ حيث تنص المادة الخامسة عشر منها على " ربط التربية والتعليم في جميع المراحل بخطة التنمية العامة للدولة " ، حيث أن تحقيق التنمية لا يتوقف عند توافر الموارد الطبيعية ولا الأنظمة والقوانين بل لا بد من بناء وتنمية القوى البشرية المنتجة وهذا لن يتم بمعزل عن التعليم لذلك فالعلاقة بين التعليم والتنمية قوية ، وفي ذلك يذكر أحد الباحثين أن تقريراً للأمم المتحدة يشير إلى أن التعليم يمكن أن يؤدي وظيفته في التنمية حيث يساعد على اكتشاف وتنمية الأفراد ويهيئ سبل التفكير الموضوعي ويزيد قدرتهم على الخلق والابتكار (20) ،وبذلك تكون مؤسسة التربية والتعليم هي المسؤولة بشكل أساسي عن إعداد الإنسان للتنمية وتوفير الخبرات التنموية بشتّى مجالاتها، لذا فإن تخلّف مؤسسة التربية والتعليم العلمي والتخطيطي، وعدم مواكبتها لمسيرة المدنية والتقدّم التقني والعلمي ينعكس على تطوّر الأمة وقدرتها التنموية، ووضعها الحضاري. ويمكن لنا مقارنة وضع المملكة الراهن في تعامل سكانها بمختلف شرائحهم مع المعلومات ولو على مستوى مستخدمي شبكة الإنترنت والبريد الإلكتروني على سبيل المثال مع مثيلاتها في دول العالم لنعرف المدلول المعرفي والمعلوماتي للتعليم في المملكة. وبطبيعة الحال هناك مؤشرات غير مباشرة لذلك منها عدد أجهزة الحاسب الآلي الشخصية بالمملكة وتلك التي بالمدارس، وكذلك عدد المشتركين بخدمة الإنترنت وعدد ساعات استخدام الشبكة. هناك أيضا التقدم في المجال العلمي والصحفي ودور النشر وكذلك الصناعات الوطنية الإلكترونية الدقيقة والحاسبات الآلية وغيرها من رموز التقنية والتي ظلت المملكة زمنا طويلا تستوردها. وفي اعتقادنا أن الأمر أوضح من أن نزيد فيه قولا والاتفاقيات العلمية بين جامعاتنا ومعاهدنا ومراكز البحث العلمي الدولية خير شاهد على ذلك.
رؤية مستقبلية : التعليم ومسئولية التغيير
نحن الآن في زمن يهدد فيه الكتاب بالانقراض وتسود فيه الأقراص المدمجة والبطاقات الذكية قاعات المحاضرات ومعامل الحاسب الآلي. زمن فيه يصعب تحديد واختيار المعلومة المطلوبة بسبب كثرتها وليس بسبب ندرتها، وهو زمن يحدد فيه التفاضل بمدى إدراك الفرد لضخامة نظم المعلومات ومدى قدرته على التعامل معها. ومما لا شك فيه أن العقبات التي واجهت التربية والتعليم بصفته المسئول عن توجيه دفة التنمية زادت أضعاف ما كانت عليه في مطلع القرن العشرين مما زاد العبء على القائمين على التربية والتعليم، حيث أن تناول التغيير والتجديد في المفاهيم والقيم والاتجاهات وبالتالي في سلوك الأفراد من أهم المرتكزات التعليمية، الأمر الذي أصبح أكثر إلحاحاً على مراجعة وتقييم كافة عناصر ومدخلات العملية التعليمية، لكي يكون بالإمكان تحقيق الانسجام بين ما تنشده التربية من أهداف وبين ما يطمح إليه المجتمع من تقدم ورخاء وعليه فإن تطويع برامج التربية والتعليم لتتلاءم مع ظروف المجتمع واحتياجاته وضبط آلية العلاقة بينهما يساهم في خلق أجواء اجتماعية تستطيع تضييق الفجوة بين ما تنشده التربية من أهداف التعليم واحتياجات التنمية بمؤشراتها المادية والمعنوية يأتي في مقدمة الأسباب التي ساهمت في انحسار دور المؤسسات التعليمية للاضطلاع بأدوار أكثر فاعلية في توجيه دفة المجتمع نحو مزيد من التقدم والرخاء، حيث أصبح تمرير مشروع التنمية الشاملة يتوقف على مخرجات العملية التعليمية، فهي بمثابة الإنجاز النهائي للحصيلة التعليمية، فلم تعد التنمية أرقاماً تحصي عدد الخريجين والمتعلمين بل على مدى فاعلية تعليمهم في خدمة متطلبات التنمية ودعم القيم والاتجاهات الإيجابية التي ترفع من مستوى التقدم الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، فرأس المال الحقيقي لأي تنمية يكمن في إعداد الطاقات البشرية، وهو أمر مرهون بالبرامج التي تعد الأجيال على أساسها. فلم تعد عمليات الترميم والحذف والإضافة في المناهج التعليمية بديلاً عن عملية تطوير المناهج ومراجعة النظام بأهدافه ومدخلاته ومخرجاته، إذ أن نوعية التغيير والتجديد المنشود تجاوز القرن العشرين نفسه فإذا كانت الثورة الصناعية الأولى تعتمد على الفحم والبخار، والثورة الصناعية الثانية تعتمد على النفط والطاقة النووية وفن الإدارة الحديثة والشركات المساهمة فإن الثورة الصناعية الثالثة تعتمد على العقل البشري متعدد المهارات والمواهب الذي يستطيع التعامل مع الإلكترونيات الدقيقة وكيفية توليد المعلومات وتنظيمها. وعليه فإن القدرة على تكوين وتنشئة العقول في المجتمع بعيداً عن إرهاصات التشكيك في مقدرة العطاء ومواكبة القرن الجديد يعزز من فرص العوامل المختلفة التي تحيط بالفرد من رفع كفاءة التنمية الشاملة التي يطمح إليها أي مجتمع.
المراجع:
1.وزارة التعليم العالي، "التقرير الوطني الشامل عن التعليم العالي في المملكة العربية السعودية"، 1420-1421ه ، 1999-2000، ص 3.
2. المصدر السابق ، ص3.
11. حمد إبراهيم السلوم، التعليم العام في المملكة العربية السعودية، مطابع انترناشنال كرافكس، واشنطن،1991م. ص9.
12. المصدر السابق، ص. 11.
13.وزارة المعارف،قسم الإحصاء بمركز المعلومات،التوثيق التربوي، العددان 31-32، 1411-1412ه.ص 16.
15. وزارة التخطيط، ،خطة التنمية السابعة، 1420، الرياض. الفصل الأول.
16. كوميز ، أزمة التعليم في عالمنا المعاصر ، ترجمة أحمد خيري كاظم وجابر عبد الحميد جابر ، 1971م ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، ص 124 .
17. القرضاوي ، يوسف ، مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام ، 1415ه ، مكتبة وهبة ، القاهرة . ص 17 – 18 .
19. الجلال ، عبد العزيز عبد الله ، التربية والتنمية ، 1416ه ، الدار التربوية للدراسات والاستشارات ، الرياض . ص 26.
20. حسن ، عبد الباسط محمد ، التنمية الاجتماعية ، 1402ه ، ط 4 ، مكتبة وهبة القاهرة . ص 344