3– الإخـوان والهِجَــر:
أنتجت عبقرية الملك عبدالعزيز ظاهرة سياسية عسكرية وحضارية هي ظاهرة الإخوان والهِجَر.والهِجَر هي المناطق التي خُصصت لاستقرار البدو الرحل، وأراد بها الملك عبدالعزيز تحضير البادية. حيث تكون لكل قبيلة "هِجْرة" تستمد مياهها من بئر خاص بها أو نبع ماء، يتم إنشاؤها بالقرب منه، ولكل هجرة مسجد ومدرسة لتعليم الكتابة والقراءة وتعاليم الدين،وهي بذلك عملية لتحضير البادية فريدة من نوعها، إذ تتم ببقاء سكان البادية في مناطقهم أو في أقرب مكان منها صالح للشرب والزرع، أي مكان من الممكن أن تتوافر فيه عوامل الاستقرار، وفي الأصل، كانت كلمة "الإخوان" تطلق على طلاب العلم في الدولتين الأولى والثانية، وارتبطت في عهد الملك عبدالعزيز بعملية الاستقرار هذه التي شهدتها البادية بإقامة الِهِجَر.
أما الجانب الآخر لظاهرة الهجر فهو أثرها في تحقيق البناء العسكري، فقد تعلم ساكنو البادية– بتلقيهم لتعاليم الدين والتزامهم بها– أن كسب العيش عن طريق الزراعة والتجارة والعمل هو شيء لا يتنافى مع البطولة والفروسية،وانخرطوا بجانب نمط حياتهم الجديد، في جيوش الملك عبدالعزيز، مطلقين على نفسهم اسم الإخوان، دلالة على الإخاء في الله، والتوحد لإعلاء كلمته بعيداً عن التعصب القبلي، فأصبحت الهجر معسكرات منظمة تنتشر في البادية،ويفسر الزركلي ظاهرة التفاف البدو حول الملك عبد العزيز حيث يقول: "والعرب ولا سيما البدو يتفاءلون بالقائد المظفر، ويلتفون حوله، ... وإذا قرأنا أو سمعنا أنه اجتمع تحت رايته عشرة آلاف مقاتل يوم خفّ لنصرة مبارك الصباح سنة 1320هـ/1902م واثنا عشر ألفاً في وقعة البكيرية، ولم يكن له يومئذ مُلك ولا سلطان أدركنا ثقة "البدو" وتفاؤلهم بظفره وأن الرزق أمامهم ما دام عبد العزيز في مقدمتهم."(6).
كانت أول هجرة اكتمل إنشاؤها في إطار هذا الإصلاح الاجتماعي والديني والعسكري الذي قام به الملك عبدالعزيز هي هجرة الأرطاوية، وذلك في عام 1330هـ/1912م.
وقد جعل الملك عبد العزيز من الهجر وحدات عسكرية، تنتظم في إطار قوة كبيرة موحدة، نهضت تحت إشرافه وتوجيهه، أي أنها قواعد عسكرية بالمفهوم الحديث، وشاركت حركة الإخوان بذلك في توحيد شبه الجزيرة العربية، فكانوا تحت راية عبدالعزيز، من أهم العناصر التي شاركت في الغزوات والمعارك.
و الهجر هي أيضاً ثكنات دائمة ومستقرة لجنود الملك عبدالعزيز من الإخوان، فهم على أهبة الاستعداد دائماً لأي دعوة للقتال، فمن منازلهم يأخذون سلاحهم وذخيرتهم ونوقهــــم، و الطعام الذي يتزودون به في رحلتهم للقتال. وتنقسم كل هجرة "إلى ثلاث فئات: فئــــــــة تكون مستعدة دائماً للجهاد، ومع كل فرد من أفرادها سلاحه وذخيرته وناقته، وفئة تدعى عندما يعلن الإمام أن الجهاد مثنى، ويكون كل فردٍ فيها مكلفاً بإحضار مجاهد آخر يردفه على جمله، وفئة تلبي دعوة الجهاد حينما يعلن الإمام النفير العام"(7). ويقول الريحاني حول مشاركة الإخوان في فتوحات الملك عبدالعزيز: "يصدر الأمر من الرياض فيحمله النجَّابون إلى أقاصي البلاد، ليجتمع على أحد الآبار أو في أحد الشعاب في اليوم المضروب، ألوف من أهل نجد– بادية وحضراً– وقد جاء كل على راحلته، مسلحاً ببندقيته، وممنطقاً بذخيرته، حاملاً بعض التمر والماء، فهم أثناء الغزو أو الحرب لا يبغون من سلطانهم شيئاً، قال السلطان عبدالعزيز:" هم يعطوننا ولا يأخذون منا، ونحن في أيام السلم نعطيهم ولا نأخذ منهم"(
.
ولأن الإخوان انتظموا في جيوش الملك عبد العزيز من باب الحمية الدينية أكثر مما هو من منطلق الرغبة الخالصة في التحضر والاستجابة لمتطلبات عصرهم ومستجداته، فإن استعدادهم الحقيقي لمواكبة العصر لم يرق لتطلعات الملك عبدالعزيز، فوقفوا ضده عند أول امتحان حضاري يواجهونه، برفضهم لوسائل عصرية في ذلك الحين كالسيارات ومــد خطوط التلغراف والهاتف، وهذا جانب سنتطرق إليه في الجزء الثالث الذي يتناول البناء الحضاري.