التحول من اقتصاد القبيلة إلى اقتصاد الدولة:
يعد توحيد المملكة من أقوى الدعائم للبناء والتقدم في سائر المجالات، ولاسيما في المجال الاقتصادي؛ إذ ترتب على تلك الوحدة تحول كبير من اقتصاديات الكيانات الصغيرة إلى اقتصاد الدولة الذي يقود إلى قوة وكفاءة أكبر في الأداء الاقتصادي، وما يترتب عليه من تقدم اجتماعي وسياسي وتنظيمي وأمني وثقافي، والذي يؤدي بدوره إلى مزيد من التطور في الأداء الاقتصادي في توالٍ يقود – في النهاية – إلى مراحل أعلى من التطور.
عندما تم توحيد المملكة لم تكن هناك مؤسسات بالمعنى الحديث لإدارة النشاط الاقتصادي، فأقام الملك عبدالعزيز عدة أجهزة لها بعض الاختصاصات الاقتصادية حيث لم يتم إنشاء مؤسسات ذات صلاحيات اقتصادية بحتة، ولكن هذه المؤسسات كانت نواة للمؤسسات المتخصصة.
من الجهات التي كانت لها صلاحيات اقتصادية، الديوان الملكي الذي كانت به بعض الشعب ذات الصلاحيات الاقتصادية، مثل شعبة الخزينة الخاصة، وشعبة المخازن الخاصة، وشعبة المحاسبة والأعطيات. وهذا يعكس أن المرحلة التي تم فيها تكوين هذا الجسم الإداري كانت مرحلة الحروب من أجل التوحيد. وبعد ضم الحجاز "أنشئت في مطلع العهد السعودي بالحجاز مصلحة سميت (دائرة المرافئ) انحصر عملها في نطاق محدود، كإصدار رخص الغواصين والحواتين (صيادي السمك) وللسنابيك (القوارب) السفرية، واستقبال البواخر القادمة إلى الميناء والمسافرة منه، وإجراء معاملاتها واستيفاء الرسوم المقررة عليها"([2]).
وفي 1350هـ/ 1931م أُحدثت مديرية عامة باسم خفر السواحل، ربطت بها دائرة المرافئ والدوريات البرية والبحرية، ومن اختصاصاتها استيفاء الرسوم المقررة على السفن بمقتضى التعرفة. وكانت البلديات أيضاً تشرف على مراقبة أسعار السلع، ومنع احتكارها، ومراقبة الموازين والمكاييل والمقاييس([3]).
وفي بعض المناطق التي كانت فيها إدارات مالية عند فتحها، فإن الملك عبدالعزيز تركها قائمة، وأقام عليها مسؤوليها السابقين تحت رعاية الأمراء مثلما حدث في الأحساء والقطيف. يقول العثيمين "ولما دخلت منطقة الأحساء والقطيف تحت حكمه (أي الملك عبدالعزيز) وجد فيها تنظيمات مالية سنها العثمانيون الذين كانوا يحكمونها. فرأى الاستفادة منها، وعين موظفاً من موظفيهم السابقين للإشراف على مالية تلك المنطقة برعاية أميرها([4]). وبالنسبة لبقية الأقاليم([5]) فقد أنشئت في كل بلدة إدارة لجباية الزكوات ومرجعها الحاكم الإداري للبلدة.
في عام 1346هـ/ 1927م ربطت تلك الإدارات بالحجاز عن طريق إدارة واحدة بمكة هي "مديرية المالية العامة"، وقد حولت في 1348هـ/1929م إلى وكالة ألحقت بها مالية الأحساء. وفي عام 1351هـ/ 1932م أنشئت وزارة المالية التي تولاها عبدالله السليمان الحمدان، وقد ألحقت بها إدارات التموين والحج والزراعة والأشغال العامة والسيارات، ولاحقا إدارة المعادن عندما تم اكتشاف البترول، بالإضافة إلى كثير من الإدارات بمختلف الأقاليم.
يقول إبراهيم العساف في حديثه عن وزارة المالية "ثم توالت التنظيمات المالية التي كان من أبرز مراحلها إنشاء مديرية الأمور المالية 1344هـ/1925م، ثم وكالة المالية 1347هـ/1928م، ثم وزارة المالية 11/4/1351هـ/14/8/1932م، ولعل من حسن طالعها أن يأتي إنشاؤها بوصفها وزارة قبل أسابيع قليلة من صدور المرسوم الملكي بتوحيد البلاد تحت اسم المملكة العربية السعودية. وقد انحصرت مهمة وزارة المالية عند إنشائها في القيام بدور بيت المال، وتنظيم إيرادات الدولة ومصاريفها الجارية. ثم أنيطت بها فيما بعد بعض المهام المتعددة: الحج، والدفاع، والزراعة، والأشغال العامة، والطرق، والتعدين، وذلك قبل أن تسمى كل منها وزارة مستقلة"([6]).
مما تقدم يتضح أن وزارة المالية – بالتشكيل آنف الذكر – كانت تقريبا تسيطر على كل نواحي الحياة الاقتصادية بالمملكة، فبالإضافة إلى الأعباء المالية والنقدية، كانت تضطلع بأعمال كثيرة تخرج عن الإطار المباشر لأعمال وزارات المال.
وعند إنشاء مجلس الشورى في 1345هـ/ 1926م([7]) جعلت له مهام تشريعية تتعلق بالاقتصاد، وتتمثل بالنظر في ميزانيات الدوائر الحكومية والإضافات عليها، كذلك الترخيص للشروع في عمل مشاريع اقتصادية وعمرانية، ومنح الامتيازات والمشاريع المالية والاقتصادية، وإجراء العقود مع الشركات والتجار لمشترى أو بيع لوازم الحكومة إذا زاد عن مائتي جنيه. هكذا نرى النواة الأولى لكل مؤسسات إدارة الاقتصاد قد وضعت في الفترة من 1344هـ/ 1925م إلى 1368هـ/ 1950م. وكانت تلك المؤسسات تفي – إلى حد كبير – بالحاجة إليها في إدارة الاقتصاد. وقد تطورت كثيراً مع تطور الاقتصاد الوطني بحيث تتناغم من حيث الحجم والصلاحيات مع مراحل النمو المختلفة.