توطين البدو الرحل:
الترحال هو شأن البدو – المرتبطين بالرعي – في بحثهم عن الماء والكلأ، وقد تكرست هذه العادة في شبه الجزيرة العربية حتى صارت أسلوب حياة قامت عليه كثير من القيم والتقاليد. يقول العبيد وعطية "وفيما يتعلق بفئة البدو فكانوا ينقسمون إلى ثلاثة أقسام، البدو الرحل، فكانوا ينتقلون من مكان إلى آخر وراء الكلأ والأسواق، وكانت مهنتهم الأساسية هي الرعي، ولذا كانوا يعيشون على لحوم الأغنام والماعز وأقراص اللبن المجففة، وبالنسبة للبدو شبه الرحل، فإنهم كانوا يستقرون في بعض المناطق بصفة شبه دائمة ثم يعودون إلى حياة الترحال في أي وقت"([12]).
وحيث إن الترحال يفرز مشكلات كثيرة على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، فقد كان من سياسات الملك عبدالعزيز التنموية توطين الرحل، بما للاستقرار من إيجابيات كثيرة تقابل سلبيات الترحال.
يساعد استتباب الأمن على الاستقرار السياسي، الذي يشكل قاعدة مهمة للتنمية الاقتصادية، كما أنه يسهل العملية الأمنية نفسها. فمراقبة المستقر أكثر سهولة– وأقل تكلفة مالية– من مراقبة المرتحل الذي يستطيع الإفلات من الرقابة بيسر، وهكذا يسهل منع الجريمة قبل وقوعها، والقبض على الجاني بعد وقوعها. وهذا ما ذهب إليه العثيمين إذ يقول "برهنت الأحداث على أن استقرار كثير من فئات البادية كان ذا ثمار عظيمة، منها أنه كان عاملاً كبيراً في استتباب الأمن ورسوخه"([13]) وقد بينا آنفاً دور سيادة الأمن في التنمية.
وفي مجال التخطيط، يمكن الاستقرار الجهات المختصة من الحصول على معلومات وإحصاءات دقيقة يستفاد منها في وضع الخطط. كما أن الاستقرار يقود إلى درجة أكبر من الضبط والتحكم عند التنفيذ، للوصول إلى الأهداف موضوع الخطط في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والأمنية.
إن توطين الرحل كان من المشروعات المهمة في عهد الملك عبدالعزيز، خاصة أن الزركلي قدر البدو بحوالي 60% والحضر بحوالي 40%([14]) من سكان المملكة آنئذ، مما يعني أن أكثر من نصف المجتمع كان في حالة عدم استقرار. وقد بدأ تنفيذ هذا المشروع في 1330هـ/ 1912م([15]). وفي هذا الخصوص يقول الفارسي "وضع عبدالعزيز خطة ذكية ذات مرحلتين، تتمثل أولاهما في إيفاد دعاة إلى القبائل المختلفة لتعليمها مبادئ الإسلام الأساسية، وتشجيعها على الاشتغال بالأعمال الزراعية، أما المرحلة الثانية فتتمثل في توطين البدو في مستوطنات زراعية (تعرف بالهجر) أقيمت في نجد، وقد نجح أول هذه المشروعات وتلته مشروعات أخرى كثيرة (60 مشروعاً)"([16]).
نفذ الملك عبدالعزيز برنامجاً في الهجر لضمان نجاح مشروع التوطين والتحضير، تمثل في توفير آلات الفلاحة والزراعة لسكان الهجر، مع تعليمهم طرق الزراعة وأساليبها. كما حفر المزيد من الآبار الارتوازية زيادة لمصادر المياه، وذلك لاستيعاب البدو المجاورين للهجر في النشاط الزراعي. وكان يمدهم– أيضاً – بالقوت الضروري عند شح المحصول أو عند القحط بالإضافة إلى توفير الأمن.
فضلاً عن دوره في تنمية المجتمع، ودعم القاعدة الإنتاجية في الزراعة، فقد أسهم توطين البدو في وضع الأساس للتصنيع، والاستفادة من التجهيزات الأساسية، مثل الطرق التي كان من الطبيعي أن يراعى فيها أن تمر بمصادر المياه، وما عليها من بنيات وما يصاحبها من خدمات، كان لها دورها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية بالمملكة العربية السعودية.
إنشاء التجهيزات الأساسية :
من اللبنات المهمة التي وضعها الملك عبدالعزيز لتطور الاقتصاد السعودي إنشاء البنيات الأساسية، التي تهيئ لمباشرة الأنشطة الإنتاجية، مثل الطرق والجسور والموانئ والسكك الحديدية والمطارات في مجال النقل، والبريد والبرق والهاتف في مجال الاتصالات، والكهرباء والوقود في مجال الطاقة، والمياه والمدارس والمستشفيات وغيرها في مجال الخدمات. وهي بالإضافة لتوفيرها تهيئ ظروفاً أفضل للإنتاج، تساعد على تسهيل حياة الناس. ولأنها في الغالب لا تهدف إلى الربح، ولأن تكلفتها عالية، فإن القطاع الخاص – الذي يهدف دوما إلى إحراز الربح – يحجم عن الاستثمار فيها، أو لا يستطيع ذلك. لذا فإنشاء البنيات الأساسية يعد من صميم اختصاصات الحكومات. إدراكاً منه لأهمية البنيات الأساسية، أعطى الملك عبدالعزيز هذا القطاع اهتماماً كبيراً، مما هيأ لتطور كبير في قطاعات الإنتاج الأخرى.
ففي مجال النقل والمواصلات بدأ الملك عبدالعزيز بربط أجزاء المملكة بعضها ببعض، مما كان له آثار إيجابية جمة، مثل تسهيل التجارة وتنشيطها، وهذا بدوره ينعكس إيجاباً على الإنتاج الذي يجد مدخلاته بسهولة، وتتسع سوقه بفعل سهولة المواصلات. وقد كان إنشاء الطرق هو المقدمة المنطقية لانتشار السيارات، وتقليل تكاليف وقودها وصيانتها. بدأ الملك عبدالعزيز اهتمامه في مجال الطرق بالأماكن المقدسة، حيث كانت أولى الطرق هي المنشأة بين جدة ومكة، ومكة والمدينة، ومكة والمشاعر المقدسة. وهذا يعكس الاهتمام بالحج والحجاج، باعتبارهم ضيوفاً على المملكة، وهذا جزء من الاهتمام بالمسلمين. فعمل الملك عبدالعزيز على راحتهم وتسهيل أمور حجهم، بالإضافة إلى أن الحج كان أحد المصادر المهمة لإيرادات الدولة، وأحد العوامل المنشطة للإنتاج والتجارة في منطقة الحجاز. أما السكك الحديدية فقد نالت اهتمام الملك عبدالعزيز، حيث نشأت فكرة الخط الحديدي في أوائل عام 1366هـ / 1947م لنقل البضائع المستوردة عن طريق الدمام. وعند عرض المشروع على الملك عبدالعزيز طلب جلالته من شركة أرامكو أن تدرس إمكانية التوسع في هذا الخط، ليصــــل إلى مدينة الرياض، وقد وصـــل الخط إلى الرياض، وافتتح في 20 أكتوبر 1951م، ويبلغ طوله 578 كم([17]).
وفي مجال النقل البحري اهتم الملك عبدالعزيز بإنشاء موانئ جديدة، وتطوير القديمة، وذلك بهدف ربط المملكة بالعالم الخارجي، فكانت موانئ مثل الدمام والجبيل وينبع. كما تم تطوير ميناء جدة ورابغ والليث… إلخ.
وتعتبر الموانئ من أهم التجهيزات لدولة مثل المملكة تعتمد بصفة كبيرة على الاستيراد والتصدير. وقد نظم الملك عبدالعزيز أعمال تلك الموانئ، فجعل لها إدارات مسؤولة، كما أنشأ مديرية خفر السواحل، التي تضمنت مسؤولياتها الحفاظ على أمن الموانئ ومكافحة التهريب.
وفي مجال الطيران فقد تم إنشاء إدارة للطيران ألحقت بوزارة الدفاع، تحت اسم إدارة طائرات الخطوط السعودية. وتم شراء أربع طائرات، كما تم تدريب عشرة طيارين بإيطاليا عام 1354هـ/ 1935م([18])، ثم أوفدوا مرة أخرى لمصر للتدريب.
كانت هذه التدريبات نواة للخطوط الجوية العربية السعودية، التي أدت دورها في ربط مدن المملكة بعضها ببعض، وبالعالم الخارجي، كما ساهمت في نقل الحجاج.
ولتوسيع فرص التدريب أنشأت وزارة الدفاع مدرسة للطيران بالطائف. ولحركة الطائرات أنشئ أولاً مطار جدة، ومطار الحوية، ويبعد 28 كيلومتراً عن الطائف، ومطار الرياض، ومطار الخرج وهو مطار خاص، ومطار الأحساء، ومطار الظهران، بالإضافة إلى حوالي 5 مطارات داخلية صغيرة تم تجهيزها بما يلزم لحركة الطائرات.
وفي مجال الاتصالات أنشئت الإدارة العامة للبرق والبريد عام 1345هـ([19]) وقد تضمنت أعمالها إرسال الرسائل والطرود، والبرقيات، والهاتف. وقد تم تزويدها بأحدث المعدات في ذلك الوقت.
أما في مجال الطاقة فقد بذل الملك عبدالعزيز عدة مساعي للتنقيب عن النفط، والذي كان له دور حاسم في الاقتصاد السعودي. ففي عام 1923م([20]) منح الملك عبدالعزيز امتيازاً لشركة بريطانية، هي شركة التنقيب الشرقية، للتنقيب عن البترول. ولكن لم توفق هذه الشركة، فتم إلغاء الامتياز في عام 1928م([21]). وفي عام 1933م كلفت الحكومة السعودية السيد تويتشل أن يسعى للحصول على موافقة بعض الشركات الأمريكية لمواصلة المساعي لاستخراج النفط. وقد نجح مسعاه في إقناع شركة كاليفورنيا للزيت "ستاندارد أويل أوف كاليفورنيا" (سوكال) الأمريكية. وقد تم توقيع الاتفاق مع هذه الشركة في مايو 1933م([22]). وكانت هذه الشركة تعمل من خلال شركة كاليفورنيا العربية للزيت "كاليفورنيان أرابيان ستاندرد أويل".
توجت الشركة جهودها بحفر بئر الدمام رقم (1) في عام 1938م([23]). وتدفق النفط الذي غادرت أولى شحناته المملكة في عام 1939م، وذلك بحضور الملك عبدالعزيز. وبعد ذلك توالى اكتشاف آبار النفط. وقد واصلت الشركة العربية الأمريكية للزيت (أرامكو) أعمالها حتى عام 1988م حيث اشترت الحكومة السعودية حصص الشركات الأمريكية فيها لتصير شركة أرامكو السعودية. هذه هي قصة اكتشاف النفط الذي أحدث أثراً كبيراً في اقتصاد المملكة بجميع نواحيه.
بالإضافة إلى ما تقدم، فقد أسس الملك عبدالعزيز خدمات ذات أثر كبير على حياة الناس، وذات دور هام في رفع الإنتاجية، وبالتالي زيادة الإنتاج، والارتفاع بمستوى المعيشة. ومن هذه الخدمات ما يمكن اعتباره من البنيات الأساسية مثل الماء. ففي مجال المياه وسع الملك عبدالعزيز من مجاري عين زبيدة، وزاد طاقة الخزانات والصهاريج، وقد سعى الملك عبدالعزيز لتوفير المياه لجدة من عيون وادي فاطمة عن طريق أنابيب، كما مدت كثير من المدن بالمياه مثل الرياض، والأحساء، والخرج.
وفوق هذا فقد حفر الملك عبدالعزيز آلاف الآبار الارتوازية بالبادية. وكما أسلفنا فقد وفر الملك عبدالعزيز لسكان الهجر المياه من أجل الشرب، والاستخدام في الزراعة. وهكذا يكون الملك عبدالعزيز قد استخدم الماء وسيلة من وسائل تنفيذ برامج توطين الرحل. وقد بذل الملك عبدالعزيز جهوداً كثيرة من أجل توفير الماء لمواطنيه، حتى أن اكتشاف البترول جاء مصادفة، إذ إن البحث أصلاً كان عن مصادر الماء، والماء هو العنصر الأهم للزراعة بعد الأرض، وقد كان توفيره تطويراً للزراعة. وفي هذا الخصوص استقدم الملك عبدالعزيز المهندسين الزراعيين والجيولوجيين واختصاصيين آخرين من الخارج، لإجراء المسوحات والإعداد لتطوير الزراعة. وقد توجت هذه المجهودات بإنشاء مديرية الزراعة في أبريل 1948م لتنظيم الزراعة وتطويرها.
ويعد التعليم من أهم الخدمات، وذلك لعلاقته المباشرة بتأهيل الفرد ورفع كفاءته، والذي تؤهله للمشاركة بفعالية أكبر في زيادة الإنتاج بصفة خاصة، وفي التنمية بصفة عامة. وقد قام الملك عبدالعزيز بجهود كبيرة لنشر التعليم بالمملكة فأنشأ الإدارة العامة للمعارف في 1926م. ونتيجة لهذه الجهود فقد بلغ عدد المدارس النظامية في عام 1950م، 146 مدرسة، منها: 49 قروية، و87 ابتدائية، و10 مدارس ثانوية. وتضم تلك المدارس 16029 طالباً، ويعمل بها 634 مدرساً، وقد زادت هذه الأعداد فبلغت في أواخر عهد الملك عبدالعزيز 326 مدرسة. بالإضافة إلى هذا فقد تم إرسال بعض علماء الدين إلى الهجر لتعليم الناس الدين الإسلامي، وأصول الكتابة والقراءة، ونحوها مما يحتاجه الإنسان. لقد أنشأ الملك عبدالعزيز– أيضاً – ما بين عامي 1935م و 1939م عدد 14 كلية ومعهداً في مختلف التخصصات، كما قام بابتعاث عدد من المواطنين للدراسة بالخارج. يرجع الفضل في قيام التعليم الأهلي إلى عهد الملك عبدالعزيز، حيث بلغ عدد مدارسه في عام 1936م حوالي 17 مدرسة([24]).
كانت الصحة من المجالات التي اهتم بها الملك عبدالعزيز، فأنشأ مصلحة الصحة العامة في عام 1925م([25])، كما تم تقسيم البلاد إلى ست مناطق صحية. وبالإضافة إلى ذلك أنشئت الطبابة السيارة، والتي تتنقل لتقديم الخدمات الطبية والإسعافية. أيضاً تم إنشاء المحاجر الصحية "الكرنتينات" للسيطرة على الأمراض المعدية، وخصوصاً في مواسم الحج. كما اعتنى بالطب الوقائي، ومكافحة الأمراض، بالقضاء على مسبباتها، مثل الملاريا، والدسنتاريا، وما إليها.
ونتيجة للجهود المبذولة في حقل الصحة، فقد وصل عدد المنشآت الصحية في عام 1949م إلى اثني عشر مستشفى، و25 مستوصفاً، و34 مركزاً صحياً حكومياً، بالإضافة إلى المنشآت الخاصة. وقد عمل الملك عبدالعزيز على زيادة المرافق الصحية، كما عني بتطويرها وتنميتها لتخدم أفراد المجتمع تطبيباً ووقاية، وهذا يؤدي إلى إنسان صحيح معافى وقادر على المشاركة في عملية التنمية.
إلى هذا فقد اهتم الملك عبدالعزيز بمختلف شؤون الإنسان. فأنشأ البلديات لتنظيم المدن، وتقديم كافة الخدمات لها، فضلاً عن اهتمامه بالثقافة العامة، حيث أنشأ المكتبات، والصحف، كما اهتم بالطباعة والنشر، وقدم للكتاب من الدعم ما أسهم في ازدهاره.
هذه هي أهم جهود الملك عبدالعزيز في مجالات البنيات الأساسية، وإنشاء قاعدة إنتاجية جعلت من الممكن البناء على أساسها من أجل التطوير والتنمية الشاملة