علو الهمة عند الأئمة
السيد المنشاوي الورداني
ابن الجوزي والنووي والسيوطي
عندما نعلم أننا نحن .. شباب العرب والمسلمين .. قد أضعنا الكثير من أيامنا في تفاهات الأمور .. وأن يومنا إما نوما بالنهار .. أو سهرا بالليل أمام التلفاز .. فإننا نتأكد أن علماءنا السابقين لم يكونوا مجرد عباقرة .. أو عمالقة .. بل كانوا أيضا أساطير الزمن الأول بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
إن الهمة العالية أو علو الهمة هي المنقبة المشتركة بين علماء العرب والمسلمين في القرون الماضية سواء كان ذلك في العلوم الشرعية أو العلوم الطبيعية .. وكل منهم يحتاج إلى دهر للحديث عن مناقبه وآثاره .. وكيف ملأوا الدنيا علما وقدموا للإسلام كل غال ونفيس.
إننا نتحدث سريعا عن ثلاثة من أئمة علماء المسلمين كنماذج رائعة قلّ أن يجود الزمان بمثلها لما اشتهروا به من كثرة التأليف وتعدد التصنيف .. فلعلهم .. هؤلاء الثلاثة .. ابن الجوزي والنووي والسيوطي .. هم الأكثر تأليفا وتصنيفا للكتب بين العلماء.
نماذج مدهشة
كان أبو بكر بن عياش يقول " لو سقط من أحدهم درهم لظل يومه يقول : إنا لله ذهب درهمي , وهو يذهب عمره ولا يقول : ذهب عمري , وقد كان لله أقوام يبادرون الأوقات , ويحفظون الساعات , ويلازمونها بالطاعات "(1)
من أجل هذا أنجزوا الأعمال العظيمة في أعمار قصيرة فهذا الإمام أبوزكريا بن شرف الدين النووي يموت في الخامسة والأربعين من عمره (631-676 هـ ) ويترك من المؤلفات ماقسموه بعد موته على أيام حياته فكان نصيب كل يوم أربع كراريس فكيف تم له ذلك ؟ اسمع منه يجبك :
"وبقيت سنتين لم أضع جنبي على الأرض" .. فقد كان ينام على الكتب وإذا استيقظ من غفوته يتحسر ويسترجع متخيلا أنه أضاع الكثير من عمره في هذه الغفوة بين الكتب !!
ولقد كافأ الله ذكراه بكتبه ومؤلفاته التي لا تزال تنتشر في العالم الإسلامي .. ولعل كتابا مثل [ رياض الصالحين ] هو أشهرها على الإطلاق .. ولا أبالغ .. إذا قلت أنه أكثر وأشهر الكتب طباعة وانتشارا بعد كتاب الله : القرآن الكريم فلا تجد بلدا ولا بيتا من بيوتات المسلمين ولا مسجدا إلا وجدت فيه كتاب [ رياض الصالحين ] ... فما أجمل الإخلاص لله جل وعلا .. وما أعظم الهمم العالية !
وهذا الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن على بن الجوزي المتوفى سنة (597 هـ ) يقول :
" كتبت بأصبعىّ هاتين ألفىّ مجلد , وتاب على يدي مائة ألف , وأسلم على يديّ عشرون ألف يهودي ونصراني " , وقال أيضا : " لو قلت أنى قد طالعت عشرين ألف مجلد , كان أكثر وأنا بعد في الطلب " , وقال عنه صاحب كتاب الكنى والألقاب : " إن براية أقلام ابن الجوزي التي كتب بها الحديث جمعت فحصل منها شيء كثير فأوصى أن يسخن بها الماء الذي يَغسل ّ به بعد موته ففعل ذلك فكفت وفضل منها "(2)
ويحدثنا الإمام ابن الجوزي عن نفسه وقت الصغر.. يقول رحمه الله تعالى :
" أذكر نفسي ولى همة عالية , وأنا في المكتب ابن ست سنين , وأنا قرين الصبيان الكبار , قد رزقت عقلا وافرا في الصغر يزيد على عقل الشيوخ , فما أذكر أنى لعبت في طريق مع الصبيان قط , ولا ضحكت ضحكا خارجا , حتى أنى أذكر أنى كنت ولى سبع سنين أو نحوها أحضر رحبة الجامع , فلا أتخير حلقة مشعبذ , بل أطلب المحدّث , فيتحدث بالسير , فأحفظ جميع ما أسمعه , وأذهب إلى البيت فأكتبه "(3)
هذه الهمة العالية بدت في بواكيرها أيضا لدى الإمام النووي وهو صغير فقد حدثت له ( وهو ابن عشر سنين) حادثة لطيفة دلت منذ صغره على تميزه واختيار الله له ليكون من العلماء العاملين , وذلك أنه في سنة نيف وأربعين وستمائة مر بقرية " نوى" ( من أعمال منطقة " حوران" فى جنوب البلاد السورية) الشيخ " ياسين بن يوسف المراكشي" .. وكان من العارفين الزاهدين .. فرأى الصبيان يلعبون ويكرهون النووي على اللعب معهم , وهو يهرب منهم ويبكى ممسكا بالقرآن –وهو يقرأ ويحفظ على تلك الحال أثناء اللعب ، فقال الشيخ ياسين : " فوقع في قلبي محبته , فأتيت الذي يقرئه القرآن , فوصيته به , وقلت له : هذا الصبي يرجى أن يكون أعلم أهل زمانه وأزهدهم , وينتفع به الناس " , فقال لي : " أمنجم أنت ؟ " فقلت : " لا, وإنما أنطقني الله بذلك " , فذكر ذلك لوالده فحرص عليه إلى أن ختم القرآن .. وقد ناهز الحلم.
ولنترك الإمام جلال الدين عبد الرحمن بن الكمال أبى بكر السيوطي, أحد أفراد الدهر علما وتصنيفا وإمام وقته شهرة وذيوعا يحدثنا عن نفسه .. فكان يعتد بنفسه مفتخرا بعلمه .. يقول رحمة الله (توفى 911 هـ ) في كتابه (حسن المحاضرة)(4):
" كان مولدي بعد المغرب ليلة الأحد , مستهل رجب سنة تسع وأربعين وثمانمائة , وحملت في حياة أبى إلى الشيخ أبى محمد المجذوب .. رجل كان من كبار الأولياء بجوار المشهد الحسيني .. فبارك علىّ , ونشأت يتيما , فحفظت القرآن ولى دون ثمان سنين , ثم حفظت العمدة ومنهاج الفقه والنحو على جماعة من الشيوخ , وأخذت الفرائض عن علامة زمانه الشيخ شهاب الشارمساحيّ , الذي كان يقال له : بلغ السنّ العالية , وجاوز المائة بكثير , قرأت عليه شرحه , وأجزت بتدريس العربية في مستهل سنة ست وستين وثمانمائة . وقد ألّفت في هذه السنّ , فكان أول شيء ألفته شرح الاستعاذة والبسملة , وأوقفت عليه شيخنا علم الدين البلقينيّ , فكتب عليه تقريظا , ولازمته في الفقه إلى أن مات , فلزمت ولده , وقرأت عليه من أوّل التدريب لوالده إلى الوكالة , وسمعت من أول التنبيه إلى الزكاة , وقطعة من الروضة من باب القضاء وقطعة من شرح المنهاج للزركشى ومن إحياء الموت إلى الوصايا أو نحوها وأجازني بالتدريس والإفتاء من سنة ست وسبعين وثمانمائة , وحضر تصديري . ولما توفىّ سنة ثمان وسبعين وثمانمائة , لزمت شيخ الإسلام شرف الدين المناويّ, فقرأت عليه قطعة من المنهاج , وسمعته عليه في التقسيم؛ إلا مجالس فاتتني , وسمعت عليه دروسا من شرح البهجة ومن حاشيتها عليها. ومن تفسير البيضاوي , ولزمت في الحديث والعربية شيخنا الإمام العلامة تقيّ الدين الشبكيّ الحنفي , فواظبته أربع سنين . ولم أنفك عن الشيخ إلى أن مات. ولزمت شيخنا العلامة أستاذ الوجود محي الدين الكافيجي أربع عشرة سنة , فأخذت عنه الفنون من التفسير والأصول والعربية والمعاني وغير ذلك , وكتب لى إجازة عظيمة . وحضرت عند الشيخ سيف الدين الحنفيّ دروسا عديدة في الكشاف والتوضيح وحاشية عليه وتلخيص المفتاح والعضد. وسافرت بحمد الله تعالى إلى بلاد الشام والحجاز واليمن والهند والمغرب والتّكرور . وّلما حججت شربت من ماء زمزم لأمور ؛ منها أن أصل في الفقه إلى رتبه الحافظ ابن حجر . وعقدت مجالس إملاء الحديث من مستهلّ سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة. ورزقت التبحر في سبعة علوم : التفسير , والحديث , والفقه, والنحو, والمعاني , والبديع , والبيان ؛ على طريق العرب والبلغاء ؛ لاعن طريق العجم وأهل الفلسفة ؛ والذي أعتقد أنّ الذي وصلت إليه من هذه العلوم السبعة سوى الفقه والنقول التي اطلعت عليها لم يصل إليها أحد من أشياخي فضلا عمن دونهم ؛ وأما الفقه فلا أقول منه ذلك , بل شيخي فيه أوسع نظرا , وأطوع باعا ... "
ثم أخذ يعدد كتبه إلى حين تأليف كتابه فذكر منها ثلاثمائة كتاب في التفسير والقراءات والحديث والفقه والأجزاء المفردة والعربية والآداب.
وقد عدّ له الأستاذ بروكلمان (415) مؤلفا بين مطبوع ومخطوط , وذكر له الأستاذ فلوغل والأستاذ جميل العظم قريبا من هذا العدد وقال ابن إياس : " بلغت مؤلفاته 600 مؤلف "(5)
وهذه تراجم شخصيات الأئمة الثلاثة فى سطور: (6)
ابن الجوزي
عبد الرحمن بن علىّ بن محمد بن علىّ القرشي التيمي البكري.
كنيته أبو الفرج , ولقبه جمال الدين , وعرف بابن الجوزي نسبة إلى بلدة الجوز بالبصرة .
ينتهي نسبة إلى أبى بكر الصديق رضي الله عنه .
ولد في بغداد سنة 509 هـ .
حفظ القرآن وجمع الروايات , وأخذ الفقه وسمع الحديث , وتعلم الأدب وقرأ ما يزيد على عشرين ألف مجلد.
أحد فقهاء المذهب الحنبلي.
يقول عن نفسه : " حبب إلىّ العلم من زمن الطفولة فتشاغلت به وخلقت من همة عالية تطلب الغايات ... بلغت الستين وما بلغت ما أملت"
اشتغل بالوعظ في جامع المنصورة سنة 527 ه , واشتهر أمره ثم أذن له بالتدريس بجامع القصر , فحضر دروسه مائة ألف أو يزيدون.
نفاه السلطان الناصر بعد وشاية ضده إلى واسط وعاد بعد خمس سنوات.
ألّف في كل فنّ , وشارك في كل علم وتزيد مؤلفاته على 300 كتاب , وقيل 600 وقيل 800 .
سئل أيهما أفضل : أسبح أو أستغفر؟ فقال : الثوب الوسخ أحوج إلى الصابون من البخور.
من أقواله : " من قنع طاب عيشه ومن طمع طال عيشه"
من مؤلفاته : [ المغني ] و [ زاد المسير ] وكلاهما في التفسير و [ الأذكياء ] و [ الموضوعات ] و[ تلبيس إبليس ] و [ صيد الخاطر ] .
توفى في بغداد سنة 597 ه .
النووي
يحيى بن شرف بن مري بن حسن الحزامي الحوراني.
كنيته أبو زكريا ولقبه يحيى الدين وتعرف بالنووي نسبة إلى بلدته نوى.
ولد في نوى من قرى حوران بسوريا سنة 631 هـ .
تعلم القرآن في بلدته نوى ثم قدم دمشق وسكن بالمدرسة الرواحية , ودرس الفقه وأصوله والحديث وعلومه واللغة والنحو والمنطق والتوحيد.
لم يتزوج.
كان شديد الزهد والورع.
كان كثير الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر , وكان يكاتب الحكام والأمراء في ذلك.
كان إمام الشافعية في عصره ومحقق المذهب.
كان حافظا للحديث وفنونه ورجاله وصحيحه وعلله.
ولي مشيخة دار الحديث.
كان لدار الحديث راتب كبير فما أخذ منه شيئا , بل كان يجمعها عند ناظر المدرسة , وكلما صار له حق سنة اشترى به ملكا ووقفه على دار الحديث , أو اشترى كتبا فوقفها على خزانة المدرسة , ولم يأخذ من غيرها شيئا.
كان يدرس كل يوم (12) درسا شرحا وتصحيحا , منها درسان في الوسيط , ودرس في صحيح مسلم , ودرس في الجمع بين الصحيحين , ودرس في المهذب , ودرس في أصول الفقه , ودرس في أسماء الرجال , ودرس في أصول الدين , ودرس في اللمع لابن جنىّ , ودرس في التصريف.
من مؤلفاته : [ رياض الصالحين ] و[ الأربعين النووية ] و [ حلية الأبرار ] ويعرف بـ [ الأذكار ] و [ المنهاج في شرح صحيح مسلم ] و [ التبيان في آداب حملة القرآن ] .
توفى في نوى سنة 676 ه بعد أن زار مقبرة شيوخه وأصحابه الأحياء ودعا لهم وبكى.
لما بلغ نعيه إلى دمشق ارتجّت هي وما حولها بالبكاء وتأسف عليه المسلمون أسفا شديدا.
السيوطي
عبد الرحمن بن أبى بكر بن محمد بن الخضيري السيوطي.
لقب بجلال الدين , ولقب بابن الكتب لأن أمه ولدته بين كتب كانت لأبيه.
ولد في القاهرة بمصر سنة 849 هـ .
مات والده وعمره خمس سنوات.
حفظ القرآن وعمره ثماني سنوات.
سافر لطلب العلم إلى الفيوم ودمياط ومكة وبلاد الشام واليمن والهند والمغرب.
تبحر في علوم التفسير والحديث والفقه , والنحو والمعاني والبيان والبديع.
درس أصول الفقه والجدل والصرف والقراءات والطب والحساب.
بلغ مرتبة الاجتهاد , وأذن له عدد من شيوخه بالتدريس والإفتاء وإملاء الحديث.
كان يدرس بالمدرسة البيبرسية.
ألف واختصر وشرح ما يزيد على 600 كتاب.
لما بلغ 40 سنة حدثت بينه وبين بعض المماليك وبعض العلماء مشاحنات , فاعتزل الناس وخلا بنفسه في روضة المقياس على النيل بالقاهرة.
كان يرد الهدايا وأموال الحكام والأمراء الذين كانوا يزورونه.
من كتبه : [ الإتقان في علوم القرآن ] و [ الدر المنثور في التفسير بالمأثور ] و [ لباب النقول في أسباب النزول ] و [ الأشباه والنظائر ] في النحو, وفى قواعد فقه الشافعية و [ تاريخ الخلفاء ] و [ شرح سنن " أبى داود" و" النسائى و" ابن ماجه" ] و [ فاكهة الصيف وأنيس الضيف ] .
توفى سنة 911 هـ في القاهرة.
خاتمة..
العمر لا ريب جد قصير , مهما طال بالإنسان الأمل , ومدّ له في الأجل , إنما هو أيام معدودة , وأنفاس محدودة , يقطعها الموت بغير استئذان , ويترك صاحبها في خبر " كان".
وكم من أناس وفقوا لأعمال كبيرة في أزمنة يسيرة , حتى لتحسب إنجازاتهم ضربا من الخوارق , وما هي بالخوارق , وإنما هي البركة والتوفيق .(7)
وحسبنا في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي أخرج الناس من الظلمات إلى النور وغيرّ وجه التاريخ البشرى كله إلى اليوم وإلى ما شاء الله في ثلاث وعشرين سنة .. ومن بعده الصحابة العاملين المجاهدين والقادة والفاتحين والتابعين من العلماء والعظماء .. وذكرنا منهم هذه النماذج الثلاثة لاشتهارها بكثرة التصنيف وغزارة العلم .. حتى تحس أنهم أحياء رغم موتهم ويؤدون رسالتهم وهم مقبورين . وهذا هو الذكر الحسن الذي يبقى للإنسان بعد موته.. وهذا هو أثره الذي لا يزال ينفع البشرية ويلخص أحمد شوقي ذلك في بيتين من الشعر قائلا:
دقات قلب المرء قائلة له == إن الحياة دقائق وثوان!
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها == فالذكر للإنسان عمر ثان
فما أحوجنا إلى الهمة العالية نغتنمها من سير الأولين وحسبنا في ذلك قول الله تعالى : { إنا نحن نحيى الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم } (
والحديث الشريف الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية , أو علم ينتفع به , أو ولد صالح يدعو له ) (9)
وفى حديث آخر تضمن تفصيلا لهذه الثلاث : ( إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره , أو ولداً صالحا تركه , أو مصحفا ورثه , أو مسجداً بناه , أو بيتا لابن السبيل بناه , أو نهراً أجراه , أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه بعد موته ) (10)