أسم الموضوع : فضل الوالدين
أولا: فضل الوالدين في القران الكريم:
حقيقة عندما تقترب من هذا الموضوع تحس بأنك تزلزل داخليا معه، يكاد
قلبك أن ينخلع، بل يكاد لحم وجهك يسقط، بل لا تستطيع التحكم في سيل
الدمع ولا شكوى اللسان خجلا وحياء واستحياء من الله لتقصيرنا في هذا الحق
العظيم، والذى جاء به قرآن يتلى ويتعبد به إلى يوم الدين، فالأم والأب
ودائما نقول: الأم قبل الأب لأن الذي قدمها هو المصطفى كما في الصحيحين من
حديث أبي هريرة أن رجلا جاء إلى النبي فقال له: من أحق الناس بحسن
صحابتي؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال:
((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أبوك)).
إذا ذكرتهما ذكر البر والإحسان، وإذا ذكرتهما ذكر الوفاء والعرفان،
وإذا ذكرتهما ذكر فضلهما في السنة والقرآن، وإذا ذكرتهما أسعفتك
بالدموع العينان، ذهبت أيام حياتهما، وانقضى شبابهما، وقفا على عتبة
هذه الدنيا ينتظران منك قبا رقيقا رقراقا عطوفا حنونا، ينتظران منك
كلمة حانية وبرا وإحسانا وجودا وعرفانا، كيف لا والأم قد لاقت من الآلام
والمصاعب ما لاقت، يود المرء أن يكون معه نسيا منسيا؛ من حمل وولادة ووضع
ورضاعة، جعلت لك بطنها وعاء ودمها لك غذاء وثديها لك سقاء وحنانها
وعطفها لك غطاء، تبكي لتضخك أنت، تجوع لتشبع أنت، تسهر لتنام أنت، تمرض
لتشفى أنت، تحزن لتسعد أنت. والأب يلاقي ما يلاقي في هذه الحياة من متاعب
ومشقات ومصاعب؛ ليوفر لك لقمة العيش الحلال والبيت السعيد والمال
الوفير، لتعيش مرفوع الرأس بين الناس.
من هنا كان الملك الجليل جل وعلا يعلم فضلهما وعظم مكانتهما، ورفعها
وجعلها مكانة سامية تتوارى معها كل مكانة مهما علت أو سمت، بل قرن
المولى جل وعلا هذه المكانة بأهم حق لله تعالى على عباده على الإطلاق، ألا
وهو حق التوحيد إذ قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا
تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ
مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء: 23، 24].
قرن عبادته وتوحيده وتمجيده والخضوع له والتذلل له مقترنا بالإحسان
إلى الوالدين ولين الجانب وخفض الجناح لهما وجعلهما فوق الرأس، بل وضع
أقدامهما فوق الرؤوس كما كان يفعل محمد بن المنكدر، كان يضع خده على
التراب ويقول: يا أماه ضعي رجلك على خدي.
قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا
[النساء:36]، وقال تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ
أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام:151]، وقال تعالى مخاطبا
الأمم السابقة: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ
اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]،
بل وصى الله تعالى وصية خالدة إلى يوم القيامة نزل بها سيد الملائكة على
سيد البشر والأنبياء والمرسلين ، فقال: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا
[العنكبوت:8]، وقال: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ
وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14]. فأي فضل
هذا؟! وأي منزلة ومكانة هذه؟! بل قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ثلاث آيات
نزلت مقرونة بثلاثة، لا يقبل الله واحدة بدون قرينتها، أما الأولى فهي قوله تعالى: أَطِيعُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النور:54]، فمن أطاع الله ولم يطع الرسول فلن
يقبل منه، وأما الثانية فهي قول الله: وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ [البقرة: 43]
فمن أقام الصلاة وضيع الزكاة لن يقبل منه، أما الثالثة فهي قول الله
تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان:14]، فمن شكر الله ولم يشكر لوالديه لن يقبل منه).
فشكرك والديك هو برهما والإحسان إليهما والقيام على خدمتهما وأن تجثو
على الركب تحت أقدامهما كالعبد الذليل بين يدي مولاه؛ لأن هذا من مقامات
النبوة ومن أخلاق الأنبياء، فهذا نبي الله نوح يقول: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ
وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [نوح:28].
وهذا نبي الله إبراهيم الذي علم البشرية كلّها معنى البر، انظر كيف يتحبّب إلى والده
بأحب كلمة له كلمة يا أبي، والله الذي لا إله غيره منّا من يتمنى أن يسمع
هذه الكلمة ولو لو مرة واحدة، نداء غالٍ له قيمة روحية عالية، انظر مع
أن أباه على الكفر يصنع الأصنام ويبيعها ويروّج لها في الأسواق، ومع ذلك
انظر إلى هذا النداء الرقيق الرقراق الذي يلين القلوب القاسية: وَاذْكُرْ
فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا إِذْ قَالَ لأَبِيهِ
يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا
يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ
جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ
يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ
الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ
كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ
مِنْ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ
لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا [مريم:41-45]، ما أجمل هذا الأدب والبر من خليل الرحمن بعد
أن رفض أبوه دعوته، انظر إلى حسن المعاشرة والبر والأدب من الخليل: سَلامٌ
عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي . وهذا نبي الله يحيى، وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا
عَصِيًّا [مريم:14]. وهذا نبي الله عيسى، وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا
، بل وإن كان الأب والأم على الكفر فقد أمر الله سبحانه بالإحسان إليهما
بالمعروف في الدنيا، قال تعالى: وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ
بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا
وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ
إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ .
أي فضل هذا أيها الحبيب حين تصبغ بصبغة البر والإحسان والصدق والإخلاص
ستجنى ثمرات هذا البر من الله، وهذا هو عنصرنا الثاني.
ثانيا: ثمرات البر:
1- أيها الأخ الكريم، اعلم ـ رحمك الله تعالى ـ أن البر من أعظم الطاعات
وأجلّ الأعمال إلى الله تعالى؛ لأن البر بلغ عند الله مكانة عالية سامية، وعند
المصطفى أيضا، كما في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألت
النبيّ : أيّ العمل أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها))، قلت: ثمّ أيّ؟
قال: ((بر الوالدين))، قلت: ثمّ أيّ؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)).
انظر إلى هذه المنزلة العظيمة للبر عند الله تعالى، بل في البخاري من
حديث ابن عمرو أن رجلا جاء إلى النبي قال: أبايعك على الهجرة والجهاد
أبتغي الأجر من الله تعالى، فقال: ((فهل لك من والديك أحد حيّ؟)) قال: نعم،
بل كلاهما، قال: ((فتبتغي الأجر من الله تعالى؟)) قال: نعم، قال: ((فارجع
إلى والديك فأحسن صحبتهما)). فجلوسك تحت أقدام والديك وتقبيلهما وغرس
السعادة في قلبيهما ويد حانية وكلمة رقيقة وقبلة حانية أعظم قربة لله
تعالى بحبّ وإخلاص، بل راجيا من الله لهما البركة في العمر والرزق والصحة،
وهذا شيء مهم جدا، لا بدّ من الحبّ بإخلاص، جاء رجل إلى الفاروق عمر رضي الله
عنه فقال له: إن لي أمًا بلغ بها الكبر، وإنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري
مطية لها، وأوضئها وأصرف وجهي عنها، فهل أديت حقها؟ قال: لا، قال: أليس
قد حملتها على ظهري وحبست نفسي عليها؟! فقال عمر: إنها كانت تصنع ذلك
بك وهي تتمنى بقاءك وأنت تتمنى فراقها.
نعم أحبتي، يجب الإخلاص في حبهما، بل قال أبو موسى الأشعري: شهد ابن عمر
رجلاً يطوف بالبيت قد حمل أمه وراء ظهره يقول:
إني لها بعيرها المذلّل إن أذعرت ركابها لم أذعر
فقال: يا ابن عمر، أتراني جزيتها؟ قال: لا، ولا وبزفرة واحدة، ولكنك
أحسنتَ، والله يثيبك على الإحسان.
إنهما بابان إلى الجنّة تدخل منهما إلى الجنّة، كما قال أحد الصالحين
إياس بن معاوية عندما ماتت أمه فبكى بكاء مريرا، فلما سألوه: لِمَ تبكي
هكذا؟ قال: كيف لا أبكي وقد كان لي بابان إلى الجنة، واليوم أغلق
أحدهما؟! الله أكبر.
2- البر سبب في دخول الجنة:
كما في مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((رغم أنف ثم رغم أنف
ثم رغم أنف من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة))
، خاب وخسر ولصق وجهه بالتراب، إنها تجارة رابحة مع الله جل وعلا، رأس مال
مع الله ينمو ويزيد، فاز به من برهما، وخاسِر ومغبون من عقهما، بل في
الحديث الذي رواه البيهقي ورواه ابن ماجة وحسنه الألباني في السلسلة
الصحيحة من حديث معاوية بن جاهمة أن جاهمة عندما جاء إلى النبي فقال:
يا رسول الله، أردت أن أغزو ـ أي: في سبيل الله ـ وقد جئت أستشيرك، فقال:
((هل لك أم؟)) قال: نعم، قال: ((فالزمها، فإن الجنة عند رجلها)).
انظر إلى الصالحين كيف كانوا، هذا زين العابدين علي بن الحسين قيل
له: إنك من أبرّ الناس بأمّك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة! فقال: أخاف
أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتها. وأنت لا تعرف
أإذا كانت أمك أكلت أم لا، وكذلك الأب لا تعرف أكل شبِع جاع، لا تعرف. وكان
طلق بن حبيب لا يمشي فوق ظهر بيت وأمه تحته إجلالاً لها وتوقيرًا، بل وكان
الفضل بن يحيى يُدِْفئ الماء لأبيه وهما في السّجن، فيضع الدلو عند المصباح
ويمسكه طوال الليل، فعرف السجان ذلك فأخذ المصباح في الليلة التي
بعدها، فجعل الفضل يضمّ الوعاء إلى جلده وبطنه طوال الليل، فإذا طلع
الفجر كان الماء فاترًا فأعطاه أباه ليتوضأ به، فاتَّقِ الله عبد الله.
3- البر سبب لرضا الله تعالى:
كما في الترمذي بسند صحيح من حديث ابن عمرو أن الحبيب قال: ((رضا
الرب من رضا الوالدين، وسخط الرب من سخط الوالدين)).
فيا من تهينهما ولا تكرمهما، يا من تغضبهما ولا ترضيهما، احذر عضب
الجبار جلّ وعلا، ألك قدرة على الله؟! ألك قدرة على النار؟! إن أخذه شديد
مرير عسير، أخذ عزيز مقتدر. ويا من حرصت على رضاهما، هنيئا لك برضا الله
الذي هو أكبر من الدنيا، بل أكبر من الجنة وما فيها، وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ
، وخدمتهما شهادة لك بين يدي الجبار جل وعلا، ورضاهما ثروة لك في الدنيا
قبل الآخرة. وانظر حينما يكون الأب والأم في رضا عن ولدهم؛ كان رجل يقال
له: كلاب بن أمية بن الأسكر، له أبوان شيخان كبيران، وكان يأتيهما
بصبوحهما وغبوقهما ـ الصبوح: شرب اللبن في الصباح، والغبوق: في المساء
ـ، فجاءه رجلان فلم يزالا به يرغبانه في الغزو حتى اشترى غلامًا فأقامه
مقامه وخرج للجهاد، فجاء الغلام ذات ليلة بغبوق الأبوين وهما نائمان،
فقام ساعة فلم ينبههما فذهب وتركهما، فانتبها في بعض الليل وهما جائعان
فقال الشيخ:
لِمن شيخان قد نشدا كلابا كتابَ الله إن قبل الكتابا
تركت أباك مرعشـة يداه وأمك ما تسيغ لها شرابا
إذا نعب الحمـام ببطن وج على بيضاته ذكرا كلابا
أتـاه مهاجـران تكنفـاه ففارق شيخه خَطِئا وخابا
أنـاديه فيعـرض في إبـاء فلا وأبي كلاب ما أصابا
وإنك والتماس الأجر بعدي كباغي الماء يتبع السرابا
وكان عمر بن الخطا رضي الله عنه إذا قدم عليه قادم سأله عن الناس وعن
أخبارهم وعن حالهم، فقدم عليه قادم فقال: من أين؟ قال: من الطائف قال:
كيف تركتهم؟ قال: رأيت بها شيخًا يقول.. وذكر الأبيات، فبكى عمر وقال:
أجل، وأبي كلاب ما أصابا. ثم إن أمية بن الأسكر أخذ بيد قائده ودخل على
عمر وهو في المسجد فأنشده:
أعاذل قد عذلت بغيـر قدر ولا تدريـن عاذل ما ألاقـي
فإمـا كنت عـاذلتي فردي كلابـا إذا توجـه للعـراق
فتى الفتيـان في عسر ويسر شديد الركن في يوم التلاقـي
فلا وأبيك ما باليت وجدي ولا شفقي عليك ولا اشتياقي
وإيقادي عليك إذا شتونـا وضمك تحت نحري واعتناقي
فلو فلق الفؤاد شديد وجد لَهمَّ سـواد قلبِي بانفـلاق
سأستعدي على الفاروق ربا له دفعَ الحجيج إلَى بسـاق
وأدعـو الله مجتهدًا عليـه ببطن الأخشبين إلَى دفـاق
إن الفاروق لَم يردد كلابا على شيخيْن هامُهما زواق
فبكى عمر وكتب إلى أبي موسى الأشعري في ردّ كلاب إلى المدينة، فدعاه
فقال: الحق بعمر بن الخطاب، فقال: لِمَ؟! ما أحدثتُ حدثا ولا آويت محدثا،
قال: انطلق. فجاء إلى عمر بن الخطاب، فلما قدم دخل عليه فقال له عمر:
ما بلغ من برّك بأبيك؟ فقال: كنت أوثِره وأكفيه أمرَه، وكنت أعتمد إذا
أردت أن أحلب له لبنًا إلى أغزر ناقة في إبله، فأسمنها وأريحها وأتركها
حتى تستقرّ، ثم أغسل أخلافها حتى تبرد، ثم أحتلب له فأسقيه. فبعث عمر إلى
أبيه فجاءه فدخل عليه وهو يتهادى وقد انحنى فقال له: كيف أنت يا أبا
كلاب؟ فقال: كما ترى يا أمير المؤمنين، فقال: هل لك من حاجة؟ قال: نعم،
كنت أشتهي أن أرى كلابا فأشمه شمّة وأضمه ضمّة قبل أن أموت، فبكى عمر
وقال: ستبلغ في هذا ما تحبّ إن شاء الله تعالى. ثم أمر كلابا أن يحتلب لأبيه
ناقة كما كان يفعل ويبعث بلبنها إليه، ففعل وناوله عمر الإناء وقال:
اشرب هذا يا أبا كلاب، فأخذه فلما أدناه من فمه قال: والله يا أمير
المؤمنين إني لأشم رائحة يدَي كلاب، فبكى عمر وقال: هذا كلاب عندك حاضر،
وقد جئناك به، فوثب إلى ابنه وضمّه إليه وقبّله وبكى بكاء شديدًا، فجعل
عمر والحاضرون يبكون وقالوا
لكلاب: الزم أبويك، فلم يزل مقيمًا عندهما إلى أن مات. فانظر إلى هذا
المثال الرائع في رضا الوالد والوالدة.
4- البر سبب في سعة الرزق والبركة:
كما في مسلم من حديث أنس قال رسول الله : ((من أحب أن يبسط له في رزقه
وينسأ له في أثره فليصل رحمه)). وإياك أن تتخيل أن الرزق فقط في المال،
ولكن حب الله لك رزق، جلسوك الآن في المسجد رزق، حبك للنبي رزق، حب الناس
لك رزق، حب والديك لك رزق، وصومك رمضان رزق، وقيامك الليل رزق. فيا
باغي الخير أقبل، ها هي البركة والرزق، أب وأم وأبواب كثيرة للرزق
والبركة في العمر.
5- البر سبب لاستجابة الدعاء:
كان عمر رضي الله عنه إذا أتى عليه أمراء اليمن سألهم: أفيكم أويس بن
عامر؟ حتى أتى إليه فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مراد؟
ثم من قرن؟ قال: نعم، قال: فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال:
نعم، قال: ألك والدة؟ قال: نعم، قال: فإني سمعت رسول الله يقول: ((يأتي
عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن، من مراد ثم من قرن، كان به برص
فبرئ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بارّ به، لو أقسم على الله لأبره، فإن
استطعت أن يستغفر لك فافعل)) فاستغفر لي. لم يأت إلى النبي مع شدة
احتياجه وشوقه إلى ذلك؛ منعه برّه بأمه أن يذهب إلى النبي، فأصبح مجاب
الدعوة بفضل برّ الوالدين.
فيا من لا تفكّر في ذلك كلّه ولا تأبه به، بل تعصي والديك، انظر إلى هذا
الخطر العظيم الجسيم للعقوق، وهذا هو عنصرنا الثالث مع حضراتكم في
عجالة سريعة.
ثالثا: خطر العقوق:
1- العقوق من أكبر الكبائر:
ففي الصحيحين من حديث أبي بكرة أن النبي قال: ((ألا أُنَبِّئُكم بأكبر
الكبائر؟)) ثلاثًا، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق
الوالدين، ألا وشهادة الزور، أو قول الزور))، وكان متّكئًا فجلس، فما زال
يكرّرها حتى قلنا: ليته سكت. وفى الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن
العاص رضي الله عنهما أن النبي قال: ((إن من أكبر الكبائر أن يسبّ الرجل
والديه))، فقال الصحابة: وهل يشتم الرجل والديه؟! فقال المصطفى: ((نعم؛
يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)).
انظر إلى هذا الخطر العظيم، فيا من تنظر إلى أبيك وأمك نظرة خائبة،
بل يا من ترفع صوتك عليهما، يا من تدير لهما ظهرك، يا من تفضّل عليهما
زوجتك، احذر من أكبر الكبائر، واحذر من غضب الله، ويا شباب تسبّون آباءكم
في لهوكم ومرحكم مع أصدقائكم، احذروا هذا فإنه من أكبر الكبائر، ويا من
لا تذهب إلى أمك وأبيك، ولا تعرف عنهما شيئا، أين أنت منهما؟! اتقِ الله
واحذر عقوبته.
2- العقوق سبب لغضب الله تعالى:
ففي الحديث الذي رواه النسائي والبزار بسند جيد وحسنه الألباني، ورواه
الحاكم في المستدرك وصححه على شرط الشيخين من حديث عمر أن النبى قال:
((ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة))، قيل: من هم يا رسول الله؟
قال: ((العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث)).
هل لك قدرة على الله وعلى غضبه؟! يا من تعقّ والديك، هل لك قدرة على
الطرد من رحمته وأنت في أشد الحاجة إليها؟! احذر غضب ربك أيها العبد
المسكين، فلولا رحمة ربك ما دخل أحد الجنه، فاتقِ الله واحذر عقوق
الوالدين، واستمع إلى هذه القصة العجيبة:
رجل خلّف ثلاثة أبناء، جمع الأموال، وبنى العمارات، وزوّج أبناءه الثلاثة
من ثلاث أخوات، وكبر الأب، وماتت زوجته، فسكن مع أبنائه حتى بلغ من الكبر
عتيًا، ورد إلى أرذل العمر، وأصبح لا يعلم من بعد علمٍ شيئًا، فأبدت البنات
حينها تضجرًا وتذمرًا من أبيهم، من أبي أزواجهم، وبعد إلحاح من الزوجات
قرر الأبناء أن يذهبوا بأبيهم إلى الملجأ، وهناك أخبروا المدير أنهم
وجدوه في الطريق وأنه تبين لهم أنه معتوه، فأتوا به إلى الملجأ يبتغون
الأجر من الله، فشكرهم المدير على فعلهم الجميل، ولما خرجوا من الملجأ
قالوا للحارس: إذا مات ذلك الشخص فاتّصل بنا فنحن سنتبرع بأمور كفنه
ودفنه لوجه الله، وعرضوا عليه جزءًا من المال إن هو اتصل بهم، وفي مساء
ذلك اليوم أخذ الأب المسكين ينادي زوجات أبنائه: يا فلانة، يا فلانة،
هاتوا الإبريق لأتوضأ، فقال له رجل بجواره: من فلانة هذه؟ إنك في ملجأ
المسنِّين، وهنا أفاق الرجل وردّ الله إليه عقله، فأخذ يسأل: من أتى بي إلى
هذا المكان؟ فقيل له: ثلاث رجال شهامٍ كرام، فلمّا عرف صفاتهم قال: هؤلاء
أبنائي، ثم طلب اللقاء مع مدير الملجأ، ثم تبرّع للملجأ بجميع ما يملك من عقارات
وعِمارات، وأحضر مدير التسجيل لأنه رفض أن يخرج من الملجأ إلا ميتًا، وصُدّق
على الأوراق، واشترط أن يخرج جميع الساكنون من عماراته ولو عرضوا دفع
الإيجار، ثم ما لبث الرجل أن مات بعدها بيومين إذ لم يحتمل الصدمة،
وسمعه جيرانه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ويقول: اللهم اشهد إني غاضبٌ
عليهم، اللهم كما حرمتهم من نعيم الدنيا فاحرمهما من نعيم الآخرة، اللهم
لا ترني وجوههم في الآخرة إلا وهي ملتهبة بالنيران، اللهم، اللهم.. حتى
فارق الحياة، أيّ غضب هذا؟! احذر يا عبد الله.
3- العقوق سبب لعنة الله:
كما في الحاكم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إن رسول الله
قال: ((لعن الله العاق لوالديه)). وعن ابن عباس قال: قال رسول الله : ((لعن
الله من سبّ أباه، لعن الله من سبّ أمه)). فاحذر يا عبد الله.
4- العقوق سبب في عدم قبول الأعمال:
ففي الحديث الذي رواه الإمام الطبراني وابن أبي عاصم في كتاب السنة
بسند حسن وحَسَّنَ الحديث الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة من حديث أبي
أمامة أن النبي قال: ((ثلاثة لا يقبل الله منهم صرفًا ولا عدلاً: العاق
لوالديه، والمنان، والمكذب بالقدر))، لا فرض ولا نفل ولا أي عمل تقوم به،
فإن الله لا يقبله طالما أنت عاقّ لوالديك، فكيف تنام على فراشك وأنت تعلم
أن أعمالك غير مقبولة من الله؟! انهض ـ يا عبد الله ـ من غفلتك.
5- العقوق دين واجب السداد في الدنيا:
ففي الحديث الذي رواه الطبراني والبخاري في التاريخ وصححه الألباني من
حديث أبي بكرة أن النبي قال: ((اثنان يعجلهما الله في الدنيا: البغي
وعقوق الوالدين)). ولعل القصة معروفة بين الناس أسوقها لحضراتكم للعبر والعظة:
هذا ابن عاق يعيش معه والده في بيته، فكبر الوالد، وانحنى ظهره، وسال
لعابه، واختلت أعصابه، فاشمأزت منه زوجة الابن، وكم من الأبناء يرضون
الزوجات على حساب طاعة الأمهات والآباء، فطرد الولد أباه من البيت، فَرَقَّ
طفلٌ صغير من أبنائه لجده فقال له: لماذا تطرد جدنا من بيتنا يا أبي؟!
فقال: حتى لا تتأففوا منه، فبكى الطفل لجده وقال: حسنًا يا أبتِ، وسوف
نصنع بك هذا غدًا إن شاء الله.
العقوق دَين لا بد من قضائه، وهذا ابن آخر يصفع والده على وجهه، فيبكي
الوالد ويرتفع بكاؤه، فيتألم الناس لبكاء هذا الشيخ الكبير، وينقض
مجموعة من الناس على هذا الابن العاق ليضربوه، فيشير إليهم الوالد ويقول
لهم: دعوه، ثم بكى وقال: والله، منذ عشرين سنة وفى نفس هذا المكان صفعت
أبي على وجهه .
العقوق دَين لا بد من قضائه، وهذا ابن ثالث عاق يجر أباه من رجليه
ليطرده خارج بيته، وما إن وصل الولد بأبيه وهو يجره حتى الباب وإذا
بالوالد يبكي ويقول لولده: كفى يا بني، كفى يا بني، إلى الباب فقط،
فقال: لا بل إلى الشارع، قال: والله، ما جررت أبي من رجليه إلا إلى الباب
فقط. كما تدين تدان.
أيها الأخ الحبيب، اذهب اليوم إلى أبيك فقبّل يديه وقدميه، وارجع اليوم
إلى أمك فقبل يديها وقدميها؛ تنعم وتسعد وربّ الكعبة، والله أسأل أن
يعلمنا ما جهلنا وأن يجعلنا ممن يستعمون القول فيتبعون أحسنه.
اللهمّ اغفر لنا وارحمنا واهدنا واهدِ بنا وثبّت على الحق أقدامنا وأحسن
خواتيمنا وعاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا والآخرة…