إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام ضرب أروع أمثلة البر في تاريخ البشرية؛ وذلك عندما قال له أبوه: “يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر ماذا ترى” (الصافات: 102). فماذا كان رد ذلك الولد الصالح؟ هل تباطأ أو تكاسل، أو تردد وتثاقل؟ لا، بل قال كما أخبر الله تعالى عنه: “يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ” (الصافات: 102).
وهذا عيسى بن مريم عليه وعلى أمه السلام يأتيه الثناء العطر، والتبجيل العظيم من ربه وهو ما يزال في المهد بأنه بار بأمه، ويقرن هذا بعبوديته لربه عز وجل قال سبحانه عنه: “وَبرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلنِي جَبارًا شَقِيًّا” (مريم: 32).
وكان أبو الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وهو المسمى بزين العابدين، كثير البر بأمه، وذات يوم قيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولا نراك تؤاكلها، فقال: “أخاف أن تسير يدي إلى ما قد سبقت عينها إليه، فأكون قد عققتها”.
وهذا ابن عمر رضي الله عنهما لقيه رجل من الأعراب بطريق مكة، فسلم عليه، وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه، قال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله إنهم الأعراب، وهم يرضون باليسير، فقال عبدالله بن عمر: “إن أبا هذا كان ودا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه”.
ثلاث مرتبطة بثلاث
وها هو ترجمان القرآن وحبر الأمة عبدالله بن عباس رضي الله عنهما يتحدث ويفسر آيات البر والشكر في القرآن فيقول: ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث لا تقبل منها واحدة بغير قرينتها.. إحداها قول الله تعالى: “أطيعوا الله وأطيعوا الرسول”، فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه الثانية وقول الله تعالى: “وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة”، فمن صلى ولم يزك لم يقبل منه والثالثة قول الله تعالى: “أن اشكر لي ولوالديك”، فمن شكر الله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: “رضى الله في رضى الوالدين وسخط الله في سخط الوالدين”.
وعن ابن عمرو رضي الله عنهما قال جاء رجل يستأذن النبي في الجهاد معه فقال النبي: “أحي والداك؟ قال نعم قال ففيهما فجاهد” (متفق عليه) وفي هذا تفضيل لبر الوالدين وخدمتهما على الجهاد.
وفي الصحيحين أن رسول الله قال: “ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله وعقوق الوالدين” وفي هذا اقتران الإساءة إليهما وعدم البر بالإشراك.
وعن عمرو بن مرة الجهني قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال يا رسول الله أرأيت إذا صليت الصلوات الخمس وصمت رمضان وأديت الزكاة وحججت البيت فماذا لي؟ فقال رسول الله: “من فعل ذلك كان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين إلا أن يعق والديه”.
عقوبة في الدنيا والآخرة
وقال صلى الله عليه وسلم: “لعن الله العاق والديه”، وقال: رأيت ليلة أسري بي أقواما في النار معلقين في جذوع من نار فقلت يا جبريل من هؤلاء؟ قال: الذين يشتمون آباءهم وأمهاتهم في الدنيا.. وروي أن من شتم والديه ينزل عليه في قبره جمر من نار بعدد كل قطر ينزل من السماء إلى الأرض ويروى أنه إذا دفن عاق والديه عصره القبر حتى تختلف فيه أضلاعه وأشد الناس عذابا يوم القيامة ثلاثة المشرك والزاني والعاق لوالديه.
وفي الصحيحين أيضاً أن رسول الله قال: “لا يدخل الجنة عاق ولا منان ولا مدمن خمر” وعنه قال: “لو علم الله شيئاً أدنى من الأف لنهى عنه فليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة وليعمل البار ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار”، وقال: “لعن الله العاق لوالديه”، وقال: “لعن الله من سب أباه لعن الله من سب أمه”.
وقال صلى الله عليه وسلم: “كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإنه يعجل لصاحبه”” يعني العقوبة في الدنيا قبل يوم القيامة وقال كعب الأحبار رحمه الله: “إن الله ليعجل هلاك العبد إذا كان عاقا لوالديه ليعجل له العذاب وإن الله ليزيد في عمر العبد إذا كان بارا بوالديه ليزيده برا وخيرا” ومن برهما أن ينفق عليهما إذا احتاجا فقد جاء رجل إلى النبي فقال يا رسول الله إن أبي يريد أن يحتاح مالي فقال أنت ومالك لأبيك وسئل كعب الأحبار عن عقوق الوالدين ما هو؟ قال: “هو إذا أقسم عليه أبوه أو أمه لم يبر قسمهما وإذا أمراه بأمر لم يطع أمرهما وإذا سألاه شيئاً لم يعطهما وإذا ائتمناه خانهما”.
أصحاب الأعراف
وعن وهب بن منبه قال: إن الله تعالى أوحى إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه: يا موسى وقر والديك فإن من وقر والديه مددت في عمره ووهبت له ولدا يوقره ومن عق والديه قصرت في عمره ووهبت له ولدا يعقه وقال أبو بكر بن أبي مريم قرأت في التوراة أن من يضرب أباه يقتل.
وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن أصحاب الأعراف من هم وما الأعراف فقال أما الأعراف فهو جبل بين الجنة والنار وإنما سمي الأعراف لأنه مشرف على الجنة والنار وعليه أشجار وثمار وأنهار وعيون وأما الرجال الذين يكونون عليه فهم رجال خرجوا إلى الجهاد بغير رضا آبائهم وأمهاتهم فقتلوا في الجهاد فمنعهم القتل في سبيل الله عن دخول النار ومنعهم عقوق الوالدين عن دخول الجنة فهم على الأعراف حتى يقضي الله فيهم أمره.
وقال احد الصالحين ناصحا: “لأمك حق لو علمت كثير كثيرك يا هذا لديه يسير فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي لها من جواها أنة وزفير وفي الوضع لو تدري عليها مشقة فمن غصص منها الفؤاد يطير وكم غسلت عنك الأذى بيمينها وما حجرها إلا لديك سرير وتفديك مما تشتكيه بنفسها ومن ثديها شرب لديك نمير وكم مرة جاعت وأعطتك قوتها حنانا وإشفاقا وأنت صغير فآها لذي عقل ويتبع الهوى وآها لأعمى القلب وهو بصير فدونك فارغب في عميم دعائها فأنت لما تدعو إليه فقير”.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أربعة نفر حق على الله أن لا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيمها مدمن خمر وآكل الربا وآكل مال اليتيم ظلما والعاق لوالديه إلا أن يتوبوا”، وقال: “الجنة تحت أقدام الأمهات”.
بر لا ينقطع
ما أحرى بذي اللب أن يحرص كل الحرص على بر والديه، وأن يتجنب عقوقهما؛ رغبة بما عند الله من جزيل الثواب، ورهبة مما لديه من شديد العقاب، العاجل والآجل.
وهناك آداب ينبغي لنا مراعاتها، ويجدر بنا سلوكها مع الوالدين، لعلنا نرد لهما بعض الدين، ونقوم ببعض ما أوجب الله علينا نحوهما، كي نرضي ربنا، وتنشرح صدورنا، وتطيب حياتنا، وتيسر أمورنا، ويبارك الله في أعمارنا، وينسأ لنا في آثارنا.
ومما يدل على عظم حق الوالدين، وسعة رحمة رب العالمين ان بر الوالدين لا ينقطع حتى بعد الممات؛ فقد يقصر أحد من الناس في حق والديه وهما حيان، فإذا ماتا عض يده، وقرع سنه؛ ندما على تفريطه وتضييعه لحق الوالدين، وتمنى أن يرجعا للدنيا؛ ليعمل معهما صالحا غير الذي عمل...ومن هنا يستطيع المسلم أن يستدرك ما قد فات، فيبر والديه وهما ميتان، وذلك بأمور منها: أن يكون الولد صالحا في نفسه وكثرة الدعاء والاستغفار لهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإنفاذ عهدهما والتصدق عنهما.
ان بر الوالدين نعمة من الله عز وجل يمن بها على من يشاء من عباده، وهناك أمور تعين الإنسان على بر والديه، إذا أخذ بها، وسعى إليها، فمن ذلك الاستعانة بالله عز وجل بإحسان الصلة به؛ عبادة، ودعاء، والتزاما بما شرع، عسى أن يوفقنا ويعيننا على برهما ثم استحضار فضائل البر، وعواقب العقوق: فإن معرفة ثمرات البر، واستحضار حسن عواقبه من أكبر الدواعي إلى فعله، وتمثله، والسعي إليه وكذلك النظر في عواقب العقوق، وما يجلبه من هم، وغم، وحسرة، وندامة، كل ذلك مما يعين على البر، ويقصر عن العقوق.
أبو هريرة وأمه
وعن أبي مرة مولى أم هانئ بنت أبي طالب: “أنه ركب مع أبي هريرة إلى أرضه (في العقيق) فإذا دخل أرضه صاح بأعلى صوته: عليك السلام ورحمة الله وبركاته يا أماه..تقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته.. يقول: رحمك الله كما ربيتني صغيرا.. فتقول: يا بني! وأنت جزاك الله خيرا ورضي عنك كما بررتني كبيرا.
وفي الصحيحين أن رجلا جاء إلى رسول الله فقال: “يا رسول الله من أحق الناس مني بحسن الصحبة؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال ثم من؟ قال: ابوك ثم الأقرب فالأقرب” فحض على بر الأم ثلاث مرات وعلى بر الأب مرة واحدة وما ذاك إلا لأن عناءها أكثر وشفقتها أعظم مع ما تقاسيه من حمل وطلق وولادة ورضاعة وسهر ليل.
رأى ابن عمر رضي الله عنهما رجلا قد حمل أمه على رقبته وهو يطوف بها حول الكعبة فقال: يا ابن عمر أتراني جازيتها؟ قال: ولا بطلقة واحدة من طلقاتها ولكن قد أحسنت والله يثيبك على القليل كثيراً.
إلا عقوق الوالدين
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إذا صليت الصلوات الخمس وصمت رمضان وأديت الزكاة وحججت البيت فماذا لي؟ فقال رسول الله: “من فعل ذلك كان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين إلا أن يعق والديه”.
بر زين العابدين
كان أبو الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وهو المسمى بزين العابدين، كثير البر بأمه، وذات يوم قيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولا نراك تؤاكلها، فقال: “أخاف أن تسير يدي إلى ما قد سبقت عينها إليه، فأكون قد عققتها”.