السياسة المالية للملك عبدالعزيز:
بنى الملك عبدالعزيز دولته على أساس من الشرع الإسلامي، الذي ينظم حياة الناس بكلياتها، ولم تخرج السياسة المالية عن هذه القاعدة. واعتماده الشرع الإسلامي يعني التزامه بالأحكام المالية الشرعية، وتطبيقها على هذه الدولة. ففي مجال الإيرادات العامة، نجد أن الزكاة كانت أحد المصادر الرئيسة لها. وهي إحدى أدوات تحقيق العدالة الاجتماعية، إذ إنها تؤخذ من الأغنياء لترد على الفقراء والمحتاجين، وفق النص القرآني الكريم. ومن مصادر الإيراد، ما كان يكسبه من غنائم أثر حروبه من أجل توحيد المملكة، وقد قل هذا المصدر إلى أن انتهى باكتمال التوحيد. ومصدر آخر من مصادر الإيرادات هو الرسوم التي أمر الملك عبدالعزيز بإجراء دراسة حولها ضمن دراسة شاملة للإجراءات المالية. وقد نتج عن تلك الدراسة صدور قرار يحدد أسعار بيع الطوابع، وقيم الطوابع على المعاملات الرسمية، ويوحد المعاملات في الرسوم المستوفاة على المبايعات. ومن مصادر الإيرادات– أيضاً – الضرائب، وكانت الحكومات التي سبقت الملك عبدالعزيز قد فرضت ضرائب باهظة، أرهقت المواطنين وأضعفت نشاطهم الاقتصادي. مما حدا بالملك عبدالعزيز لتخفيضها. فخفضت الضرائب على المبيعات من 5% إلى 2%، كما خفضت الرسوم على الوكالات من 80 قرشاً أميرياً إلى 25 قرشاً أميرياً، والرسوم على الشركات من 5% إلى 2.5%.
بالإضافة إلى ذلك فقد ألغيت الكثير من الرسوم على المواد الاستهلاكية. ومثل هذه السياســـة على الرغم من أنها تقلل إيرادات الدولة من هذا المصدر، إلا أنها تضبط استيفاءها– من ناحية– فالضريبة الباهظة تقود إلى التهرب من دفعها، ومن ناحية أخرى فإن تخفيض الضريبة يساعد على تنشيط الأعمال التجارية، مما يشجع على زيادة الإنتاج من أجل مزيد من التبادل. وهذا يرفع من الناتج القومي فتزيد إيرادات الدولة من المصادر الأخرى. ومن المصادر الإرادية – أيضاً – الخراج الذي كان يأتي من بعض المناطق الغنية كالأحساء، والقصيم…. إلخ.
مع ازدياد الحاجة لزيادة إيرادات الدولة، أجرى الملك عبدالعزيز مفاوضات مع بعض الحكومات والمؤسسات الأجنبية لتسهم في الاستثمار بالمملكة، وقد نتج عن تلك المفاوضات عدد من المشروعات. ومن أكبر تلك المشروعات التي هدفت إلى تنويع مصادر الإيرادات، مشروعات التنقيب عن المعادن، والبترول. وهذه سياسة تجنب الدولة أخطار الاعتماد على مصدر واحد، أو مصادر قليلة للإيرادات.
يعتبر الحج من المصادر المهمة للإيرادات، وذلك عن طريق ما يدفعه الحجاج من رسوم، وعن طريق إنفاقهم كثيراً من الأموال في مواسم الحج، مما يحرك النشاط الاقتصادي ويزيد بالتالي من إيرادات الدولة.
هناك مصدر آخر للإيرادات، هو الاقتراض من التجار، والأثرياء الذين تعاونوا مع سياسات الدولة في هذا المجال. والاقتراض من التجار بديل للتدابير الاقتراضية التي تلجأ إليها الدولة من النظام المصرفي مباشرة، أو الاقتراض من الجمهور عن طريق سندات الحكومة. وهذه هي سياسة التمويل بالعجز التي تلجأ إليها الحكومات في حالة قصور إيراداتها العامة عن تغطية إنفاقها العام، إلا أن الاقتراض هنا يأخذ بأسلوب القرض الحسن.
أما سياسات الإنفاق العام، فقد كانت انعكاساً لمتطلبات المجتمع، وضرورات تثبيت أركان الدولة وتقدمها، وفي مقدمتها يأتي الأمن، الذي خصص له جزء من النفقات العامة، وكذلك للشؤون الداخلية، والدفاع، والشؤون الدينية والخارجية.
حظي التعليم الداخلي والبعثات التعليمية بالخارج مثل مصر، وبريطانيا، وفرنسا.. إلخ، بجزء من اعتمادات الإنفاق. بالإضافة إلى الإنفاق على الاستثمارات العامة. وكل هذه العناصر تؤكد الارتباط الوثيق بين سياسة الملك عبدالعزيز في شتى المجالات، وبين سياسته المالية، التي تعبر عن تلك السياسات وتسعى إلى تحقيقها.
أحد عناصر السياسة المالية للملك عبدالعزيز، هو دعم الدولة لبعض النشاطات. والدعم سياسة إنفاقية لها كثير من الأهداف، من بينها تمهيد الطريق لتنفيذ سياسات الدولة. يقول الزركلي عن الدعم الذي قدمه الملك عبدالعزيز للبدو الرحل من أجل توطينهم "وفر لسكان الهجر آلات الفلاحة والزراعة وسهل عليهم اقتناءها، واستكثر من الآبار الارتوازية فيها لاستيعاب البدو المجاورين لها وانقطاعهم للزراعة، جعل لقبائل البادية سجلاً في ديوانه، وسهل لكل منها سبل الاتصال به وبأمراء المقاطعات، وأسعفهم بالضروري من القوت عند إصابة الغلة في أرضهم ببعض الآفات، وخص شيوخ القبائل بمنح موسمية أو شهرية ثابتة من أرز وبر أو دقيق، وسكر، وبن، وغير ذلك مما يكفي لسد رمق القبيلة في حالة قحط المراعي"([26]).
وهذا الدعم يتراوح بين دعم الإنتاج الزراعي والرعوي، والدعم الغذائي الهادف إلى توطين الرحل، إضافة إلى إعانات المؤسسات الخيرية، وبدل غلاء المعيشة وغيرها.
اعتمدت السياسة المالية آنذاك تقسيمات إقليمية للميزانية– بشقيها الإيرادي والإنفاقي– حسب المناطق. فتم تشكيل مجلس بكل منطقة لإقرار ميزانية المنطقة، وهو ما يعبر عنه بمبدأ تفويض السلطات للأقاليم، وهي درجة من درجات عدم المركزية في إدارة الميزانية. وعلى منوال غير المركزية هذه تمت الاستعاضة عن المجالس بلجان استشارية متخصصة تهدف إلى تقليل التدخل المباشر من قبل الدولة، تسهيلاً لاتخاذ القرار وقضاء على الروتين.
هناك تقسيم آخر للميزانية الموحدة للدولة، يقسم النفقات على جميع المصالح الحكومية وفق تقسيم إداري، يخصص فيه كل فصل لمصلحة حكومية بعينها، وتقسم الفصول إلى مواد، والمواد إلى فقرات حسب نوع النفقة.
لتأكيد أن السياسة المالية للملك عبدالعزيز لم تكن جامدة، نجد أنه عند استفحال الركود الاقتصادي العالمي في 1929م – والذي تأثرت به المملكة ضمن بقية دول العالم – صدرت تعليمات بشأن الميزانية لتواكب ذلك الواقع، تمثلت في عدم جواز المناقلة بين بنود الاعتمادات المالية، بالإضافة إلى تخفيض الاعتمادات بما يعادل 50% من النفقات العامة، كما منع الملك عبدالعزيز خروج المعادن النفيسة من المملكة.
بناء على ما تقدم نصل إلى أن السياسة المالية للملك عبدالعزيز كانت إحدى الركائز والأدوات المهمة للتنمية في البلاد، وأساساً لما طرأ عليها من تطور مستقبلي، في محتواها وإجراءاتها.
تعتبر ميزانية الدولة من أعمدة السياسة المالية. وهي خطة سنوية، تتحدد بموجبها إيرادات الدولة ونفقاتها بناء على أولويات تحددها السياسة المالية. وعن طريق الميزانية تستطيع الدولة التنبؤ بإيراداتها، ومصادر تلك الإيرادات حصراً وتفصيلاً، وتخصيص نفقاتها بالتفصيل المضبوط، على أساس السياسة المالية وما يتبعها من دراسات، وتضع أولويات للإنفاق الحكومي بما يحقق المصلحة العامة. ويتم ذلك ضمن تبويب متواضع عليه، بما يحقق التوازن بين الإيرادات والنفقات، أو تحديد ما إذا كان هناك فائض أو عجز بالميزانية، وكيفية التصرف فيه ومعالجته.
في عام 1350هـ/ 1931م أصدر الملك عبدالعزيز منشوراً، أمر بمقتضاه بوضع أول ميزانية للدولة، وذلك بعد الأزمة المالية العالمية التي تأثرت بها المملكة وينص المنشور على الموجهات التالية:
1- ضبط مصروفات الدولة، لتتوازن والإيرادات الثابتة للدولة، ويكون ذلك وفق مصادقة جلالة الملك. وقد شملت المصروفات رواتب الموظفين، وسداد الديون، والاحتياطي، والمصاريف غير المقررة "فوق العادة".
2- صرف الدخل غير الثابت في موضوعه، مثل دخل الحج.
3- تطبيق الشرع ومبادئ العدل والإنصاف في جميع أعمال الميزانية.
كانت هناك محاولة لعمل ميزانية للدولة في عام 1348هـ، ولكن الميزانية تقررت عام 1353هـ([27])، على حد قول الزركلي ، ولكن تشير بعض المصادر إلى أن تاريخ أول ميزانية هو الأول من شعبان عام 1350هـ . وبلغت النفقات في تلك الموازنة حوالي 14 مليون ريال، وقدرت الواردات بمثل ذلك. وكانت "أولى مصادر إيرادات الدولة ما يؤخذ من الزكاة كزكاة الإبل والغنم من البادية، وزكاة التمر والحبوب من الحاضرة. وثانيهما ما كان يغنم في المعارك مع الخصوم، أو الغارات على من رفضوا الدخول في الطاعة"([28]) أضيفت إلى المصدرين السابقين ضريبة "سميت ضريبة الجهاد أو الجهاد فقط"، وعندما لا تكفي هذه الضريبة لسد تلك الاحتياجات كان يلجأ للاقتراض من أغنياء البلاد([29]).
ولما دخلت منطقة الأحساء والقطيف تحت حكم الملك عبدالعزيز " استجد بدخولها مصدر آخر من مصادر الدخل؛ وهو جمارك البضائع الواردة إلى موانئها… وبكمال دخول الحجاز تحت حكم الملك عبدالعزيز سنة 1344هـ، انتهى، أو كاد ينتهي، المصدر الثاني من مصادر دخل دولته؛ وهو غنائم المعارك. ولكن حل محله مصدر آخر؛ وهو دخل الحج، إضافة إلى زكوات المنطقة وجماركها"([30]).
بالنظر إلى بنود الميزانية الأولى، أول شعبان 1350هـ إلى 30 رجب 1351هـ نجد أن ما يقارب 38% من نفقاتها خصصت للأمن، وما يتعلق به من قضاء ونيابة. كما نجد أن 24% تقريباً خصصت للأجهزة الإدارية والتنظيمية والتشريعية، بما فيها وزارة الخارجية التي حظيت بحوالي 1.5% من إجمالي النفقات. وتقارب النسبة المخصصة للخدمات والرواتب المتنوعة 20% و1% على الترتيب. كما بلغت النسبة المخصصة للحرمين الشريفين ولسداد الديون 2% و15% على التوالي.
توجيه أكبر حصة من النفقات – 38% خصصت للأمن ومتعلقاته، يعني أن قطاع الأمن حظي بأولوية أولى في تلك المرحلة، لأهميته البالغة للاستقرار والنمو الاجتماعي والاقتصادي.
يلي ذلك الأجهزة الإدارية والتنظيمية والتشريعية، التي خصص لها نسبة 24% من النفقات العامة. وهذه نسبة كبيرة على الرغم من أن تلك المؤسسات لم تكتمل، لكن هذه النسبة تجد مبررها في أن إيرادات الدولة كانت قليلة، وأن اقتصادها كان ناشئاً، الأمر الذي تعكسه أيضاً نسبة النفقات المخصصة للخدمات 20%. لذا فقد كانت الميزانية دالة على واقع الحال، بمعنى أنها واقعية، وتتضح من خلالها أولويات الصرف التي تشير إلى محاولة ترقية هذا الواقع.