من صور النظر إلى المآلات في فتاوى مالكية الغرب الإسلامي
--------------------------------------------------------------------------------
سئل ابن زيتون عن امرأة ليس لها إلا ابنة واحدة ، فباعت من ابنتها نصف النصف الذي على ملكها من الدار الفلانية بمائة دينار حالة ، ذكرت أنها قاصَّتها من ذلك بستين دينارا فيها خمسون دينارا كانت الأم التزمتها من مطلِّق ابنتها قبل البناء ، وذلك في ما ذكرت الأم من غير إبراز الصداق الذي ذكرت أن ذلك الالتزام كان فيه، والعشرة الباقية من الستين ذكرت أن ذلك من سلف لابنتها ، واعترفت بقبض عشرين دينارا ، وعشرون باقية في ذمة المشترية ، فماتت البائعة بعد نحو عشرة أعوام فورثتها ابنتها المذكورة وعصبتها ، فطعن العصبة الآن في البيع وأنه توليج إذ لم تزل البائعة ساكنة في الدار إلى موتها ، وأن ثمن البيع في غبن كثير ، وأنها إنما أرادت البعد عن العصبة والميل للابنة ، واستظهرت اللابنة بعقد تضمن إشهاد الأم بأنها النفقة عليها في جميع مدتها منذ عشرة أعوام متقدمة ومتمادية على ذلك لترجع به عليها متى أحبت ، وقال العصبة ورثة الأم : إنها لم تكن محتاجة لابنتها بل الابنة محتاجة إليها ، وأن ما اشهدت به الأم توليجا من العصبة ، فهل لهم مقال أم لا ؟
فأجاب :
لإقرار الأم بدين عليها للابنة في صحتها نافذ إلا أن تكون الابنة المقرُّ لها غير معروفة بكسب ولا فائدة من ميراث أو غيره ، وأقرت لها بحال ما يشبه البنت ، فإقرارها توليج ، وإن أقرت بما يشبه حال البنت ووقع البيع بما لا يشبه أن يكون ثمنا للبيع أو يشبه ، ولم يعاين البينة الثمن كما ذكر في السؤال ، ولم يزل المبيع في يد البائعة إلى مدتها ، فهو توليج .فتاوى البرزلي ، جامع مسائل الأحكام لما نزل من القضايا بالمفتين والحكام ، 3/108 تحليل الفتوى :
الأصل أن " كل بالغ حر جائز الفعل رشيد فإقراره جائز على نفسه في كل ما يقر به في ماله في صحته ...وكل من أقر لوارث او غير وارث في صحته بشيء من الاموال والديون أو البراءة أو قبض أثمان المبيعات فاقراره جائز عليه لا تلحقه فيه تهمة ولا يظن به توليج " ، لكن ليس كل فعل يوقعه المكلف سالما من التهمة ، وعلى هذا أسس الإمام ابن زيتون رحمه الله فتواه هذه ، فقد ابتدأ فتواه أولا باعتبار الأصل ، وهو أن تصرف الأم في أصله محمول على السداد والجواز ، إلا أن فعلها أحاطت به قرائن دلت على قصد فاسد ، ونية في استعمال حق الإقرار الذي منحه الشرع في غير ما شرع له ، وهذه القرائن هي :
ـ أولا : المقاصة التي وقعت بين الأم وابنتها ، وفيها الخمسون دينارا التي التزمتها الأم من مطلق ابنتها ولم تقم حجة عليها .
ـ ثانيا : أنها أسقطت من الستين عشرة دنانير ادعت أنها سلف لابنتها ولا دليل على ذلك أيضا .
ـ ثالثا : أن الأم بقيت ساكنة الدار موضوع البيع بعد عقد البيع وذلك بقصد إبطال الحيازة ، ونصوص المذهب تبطل هذا التصرف ، خاصة وأن البيع لم يتضمن معاينة القبض ، وبذلك جاءت الرواية عن ابن القاسم : " سئل مالك رضي الله تعالى عنه عمن أشهد في صحته إني قد بعت منزلي هذا من امرأتي أو ابني أو وارثي بمال عظيم ولم ير أحد من الشهود الثمن ولم يزل بيد البائع إلى أن مات فقال : لا يجوز هذا وليس بيعا وإنما هو توليج وخديعة ووصية لوارث " وهذا نص في النازلة.
ـ رابعا : أن الثمن المسمى بين الأم وابنتها لا يبلغ أن يكون قيمة نصيب الأم فيها .
ـ خامسا : إقرار الأم بالتزام ابنتها النفقة عليها طيلة عشرة أعوام .
ـ سادسا : حال البنت لا يمكن معه بحال أن تدفع القيمة المسماة لما ثبت أنها كانت محتاجة لأمها .
كل هذه القرائن تفيد وجود القصد الفاسد في استعمال هذا الحق الذي سمح به الشرع ، ألا وهو حق الإقرار ، لكن هذا استعمال هذا الحق صار ذريعة إلى الإضرار بالورثة ، وحيلة بإيقاعه في صورة معاوضة مشروعة تفتقر إلى الحوز ولا يلام فيها غالبا ، فكانت المعاملة بنقيض القصد هي سبيل منع المآل الضرري الذي سيقع على الورثة من وراء هذا التوليج الذي قصدت إليه الأم.
مفهوم التوليج : التوليج هو هبة في صورة البيع لإسقاط كلفة الحوز أو لغير ذلك من الأغراض ، انظر شرح ميارة على التحفة بحاشية ابن رحال المعداني عليه ، 2/18 ، وحاشية المهدي الوزاني على شرح التاودي على لامية الزقاق ، ص: 302 .