– مواجهة فتنة الإخوان:
حينما شرع عبدالعزيز في تحديث دولته وإعدادها لتواكب متطلبات عصره حدثت الأحداث المعروفة بتمرد الأخوان أو فتنة الدويش ، التي استغل فيها قادتها بساطة البدو وحميتهم الدينية ، فصوروا لهم الوسائل العصرية كالسيارات واللاسلكي والطائرات كنوعٍ من البدع والسحر، فقاموا بتمرد كلف عبدالعزيز في مواجهته كثيراً من الجهد والمـال و الوقت.
فما هي فتنة الإخوان ، وكيف واجهها الملك عبد العزيز؟ ولماذا كانت مواجهتها ضرورة من أجل مواصلة البناء الحضاري؟ هذا هو ما سنتعرض إليه في هذه الفقرة، لتوضيح موقف الملك عبدالعزيز الذي جاء من منطلق الحرص على مواكبة بلاده لمتطلبات عصره، ومن باب الحرص أيضاً على صورتها أمام العالم، وعلى علاقاتها الخارجية التي أثرت فيها الفتنة، وعلى وحدة دولته، و وحدة المسلمين أيضاً.
شارك سلطان بن بجاد شيخ عتيبة في وقعة تربة التي مهدت لضم الحجاز مشاركة مهمة. كما شارك من قبلها مع عبدالعزيز في حصار حائل، وشارك مع خالد بن لؤي في دخول الطائف سنة 1343هـ.
وحينما شرع عبد العزيز في بناء الدولة وتحديثها– كما أسلفنا– اجتمع فيصل الدويـــش وسلطــــان بن بجاد وضيدان بن حثلين سراً في الأرطاوية، وذلك في عام 1344هـ/1926م، ليعبروا عن غضبهم على عبد العزيز، ليس بسبب عدم تحقيقه لطموحاتهم، وإنما لتوجهاته الجديدة التي عدوها متنافية مع تعاليم الدولة السعودية، فأعلنوا اعتراضهم على استخدام الآلات والأجهزة الحديثة، كما احتجوا على فرض الضرائب على البضائع المستوردة، فقد رأوا أنها تتعارض مع الشرع،واعترضوا أيضاً على إرسال عبدالعزيز لابنه سعود إلى مصر التي وصفوها بأنها من "بلاد الشرك"، وعلى إرساله لابنه فيصل إلى لندن،وانتقدوا عقده للمعاهدات مع الأوروبيين ولقاءاته بهم، فتعاهدوا على ما اسموه محاربة الشرك.
تساهــــل عبدالعزيز في بادئ الأمــر وتعامل معهم بصبر طويل. وفي 25 رجب 1345هـ/ أوائل عام 1927، عقد عبدالعزيز، بعد مبايعته ملكاً على الحجاز، مؤتمراً دعا إليه زعماء الإخوان، وضّح فيه موقفه الذي ظلّ ثابتاً على تعاليم الشرع، وحريصاً على مصالح المسلمين، وانتهى الاجتماع بفتوى أصدرها علماء نجد تبيح استخدام الوسائل الحديثة، لكنها نصت على بنود لتهدئة غضب الإخوان، منها أن لا تطبق في نجد القوانين والنظم الجديدة المعمول بها في الحجاز، و أن يتم الالتزام بحكم الشرع فقط، من جانب آخر، أشارت الفتوى إلى ترك أمر الجهاد للإمام، إذ إن رؤساء الفتنة قد لاموا عبد العزيز على عدم مواصلة الجهاد بعد فتح الحجاز. بعد ذلك، انقطع رؤساء الفتنة الثلاثة عن زيارة الملك عبدالعزيز بالرياض، وفشلت محاولاته في تقريبهم إليه.
وفي عام 1345هـ/1927م، رأت حكومة عبدالعزيز أن الحكومة العراقية قد خرقت بروتوكول العقير، الذي أشرنا إليه سابقاً، بإقامتها مركزاً للشرطة وإرسالها حامية من الجند للإقامة على الحدود، إذ يمنع البروتوكول استخدام موارد المياه في أغراض حربية.
وما أن بدأت المحادثات بصورة ودية بين الحكومتين حتى استغل الدويش هذه الفرصة ليستعين بجماعة من الأخوان لمهاجمة مركز الشرطة، وقتلوا المقيمين به من الجند والعمال. وكان الدويش يرمي بذلك لإظهار عبدالعزيز أمام الإخوان بمظهر الضعف والتساهل، كما أراد إثارتهم عليه مستغلاً روح الحرب والغزو فيهم ،فراح يواصل غزواته على حدود الدول المجاورة، معرضاً رجاله والمملكة أيضاً إلى رد فعل القوى الاستعمارية في المنطقة التي كان تمتلك وسائل متقدمة للدفاع، مما هدد أمن المنطقة، وعرض علاقات عبدالعزيز مع الدول العظمى المحيطة به للخطر.
تأزم الموقف بتدخل الإنجليز ضد هجوم الدويش، فأرسلت الحكومة البريطانية مندوباً عنها لمفاوضة الملك الذي توقف عن التفاوض بسبب إصرار الحكومتين العراقية والبريطانية على بناء مراكز الشرطة على الحدود، كما ازداد الأمر تعقيداً بشكوى الحضر من تعصب الإخوان الديني وتشددهم.
بعد ذلك عاد عبدالعزيز إلى الرياض ودعا إلى عقد الجمعية العمومية ليطرح عليها موضوع خرق الحكومة العراقية لاتفاقها، وموضوع موقف الدويش والإخوان. فافتتح الملك عبدالعزيز المؤتمر في جمادى الأولى 1347هـ/1928م بخطبة يوضح فيها موقفـــه الثابت إزاء خدمة قضايا المسلمين والمحافظة على الشريعة، وانتهى الاجتماع بتجديد العلماء للبيعة على عبدالعزيز، وأكدوا بأن الوسائل الحديثة كاللاسلكي لا تتنافى مع الشرع.
أما الإخوان، فقد ظلوا على تشددهم.بينما اهتم عبدالعزيز بمواكبة النهضة العلمية في العالم مستفيداً من هذه الاختراعات في ربط أجزاء مملكته الواسعة، في وقت لم تكن فيه وسائل المواصلات الأخرى قد انتشرت في بلاده، وكما يقول التويجري: "فإن الملك عبد العزيز لم يتراجع وبقي وحيداً مؤمناً بأن هذه المخترعات من عطاء الله، فأقام شبكة من اللاسلكي في جميع أجزاء المملكة، وقال: دولة شابة يجب أن تكون حاضرة عندي في كل لحظة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ومن أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، من الخليج العربي إلى البحر الأحمر"(21).
لكن ابن بجاد استغل سذاجة البعض من سكان الهجر وتعصبهم، واستثار فيهم روح البداوة وحب الغزو، فسار الغوغاء منهم وراءه، ففتكوا بمجموعة من تجار القصيم، وحاول شن غارات في الشمال. تجاه هذا الموقف، أذن عبدالعزيز بمواجهتهم، فنشبت معركة "السبلة" يوم 19شوال 1347هـ/1929م. وكانت تلك هي المعركة الرئيسة ضد تمرد الأخوان، تبعتها معارك صغيرة أخرى للقضاء على أطراف الفتنة. طلب الدويش صفح الملك عبدالعزيز بعد الهزيمة التي مني بها في السبلة، فعفا عنه. لكنه ما لبث أن تابع تمرده.
لجأ الدويش للعراق، فكتب عبدالعزيز للمندوب السامي البريطاني يحتج على إيوائه. وفي شعبان 1930م سلمت الحكومة البريطانية بالعراق الدويش وابن حثلين للملك عبدالعزيز، فتم اعتقالهما. وانتهت بذلك فتنة الإخوان التي كلفت حكومة الملك عبدالعزيز كثيراً، فقد كان حزم الملك عبدالعزيز في القضاء على الفتنة، رغم تساهله في بادئ الأمر، ينبع من حرصه على توجه بلاده الحضاري وانفتاحها على أمم العالم و استيعابها لمستحدثات عصره. كما أن الفتنة قد هددت الأمن، وهو عنصر مهم من عناصر البناء الحضاري، يكفل استقرار البلاد وتقدمها، لذا كان لا بد من مواجهتها بالحزم.
ورغم هذا الحزم، فقد لمسنا الجانب الإنساني في تعامل عبدالعزيز مع الإخوان وصبره الطويل ورحابة صدره قبل أن يتخذ قرار مواجهتم، وذلك لتقديره للعمل الذي لعبوه في تكوين جيوشه في لحظات التعبئة ودعم الحكم، ولكن أيضاً لإدراكه لجوانب السذاجة والطيبة والتعصب لدى هؤلاء البسطاء، هذه الجوانب التي استغلها رؤوس الفتنة في تأليبهم على عبدالعزيز