الصحة:
كانت الصحة في الجزيرة العربية من أهم ما أولاه الملك عبدالعزيز عنايته،فعمل على نهضة الرعاية الصحية والعلاج في جميع أنحاء المملكة، وفي الحجاز على وجه الخصوص، لكونه راعياً للأراضي المقدسة، ومضيفاً لحجاج بيت الله، وتقع على عاتقه بذلك مسؤولية توفير الرعاية الصحية لهم.
شرع عبدالعزيز في وضع نظام حديث للصحة بإنشاء "مصلحة الصحة العامة" في عام 1343هـ/1925م كنواة أولى لوزارة الصحة (تكونت في عام 1370هـ) ، وتتخذ من مكة مقرها الرئيس وجعل لها فروعاً بالمدن الكبرى، حيث قسّم البلاد لمناطق صحية، واهتمت "مصلحة الصحة العامة" بمجال الإسعافات الطبية في البادية ومناطق البدو الرحل، فأنشأت نظام "الطبابة السيارة"، التي هي إدارة صحية متجولة مزودة بالخيام والسيارات والأدوية، إلى جانب ذلك تمّ إنشاء مراكز صحية ساحلية تتبع لإدارة المحاجر الصحية، التي تطورت مع تقدم المواصلات الجوية لتكون لها مراكز بالمطارات أيضاً. وفي إطار توفير العناية الطبية اللازمة للحجاج تمّ إنشاء مستشفى سيّار بعرفات،وتطورت المستشفيات المهمة في مكة والطائف وجدة والرياض.
شملت هذه النهضة الصحية استقدام أخصائيين وخبراء للعمل في البلاد ،وإرسال الأطباء الموجودين للتخصص في الدول المتقدمة علمياً، وطلبت المملكة تعاون المنظمات والهيئات العالمية والاستفادة من خبراتها.
تنظيم قوانين العمل والعمال: صدر في عام 1366هـ/1947م نظام للعمل والعمال(45) ، وهو نظام مماثل للنظم الخاصة بتنظيم قوانين العمل المعمول بها في الدول المتحضرة، ويحدد هذا النظام شروط العمل وظروفه، التي تكفل للعاملين حقوقهم وفق عقود واضحة البنود، مبرمة مع أصحاب العمل، كما تفرض على أصحاب المشاريع شروطاً تكفل صحة أماكن العمل وسلامتها، وتلزمهم بتوفير الظروف التي تكفل راحة العاملين وأسرهم ورفاهيتهم،وكان "مكتب المعادن والأشغال العامة هو الذي يشرف على شؤون العمل والعاملين في المملكة في أيام الملك عبدالعزيز. ثم تحول فيما بعد إلى "مكتب العمل والعمال".، ثم تمّ ضمه لمجلس الوزراء بعد أن أصبح يحمل اسم "مصلحة العمل والعمال"، كنواة أولى لوزارة "العمل والشؤون الاجتماعية" التي تمّ إنشاؤها بعد وفاة الملك عبد العزيز بسبع سنوات.
خاتمـــــة:
قامت دولة المملكة العربية السعودية كامتداد للدولتين السعوديتين الأولى والثانية. ولم يكن استعادة الرياض خطوة اتخذها عبد العزيز نحو استرداد ملك أجداده فحسب، وإنما توجهاً نحو تأسيس دولة عربية إسلامية كبرى قادرة على احتلال مكانة مهمة على الساحة العالمية، فالحقبة التي شهدت تفتح عبدالعزيز وبداية نضجه وهو في الكويت كانت هي حقبة امتداد نفوذ القوى الكبرى والاستعمار الغربي في العالمين العربي والإسلامي، ولم تكن هذه القوى تعطي حينها اهتماماً لأراضي الجزيرة العربية باستثناء الحجاز، وحين أصبح عبد العزيز سلطاناً لنجد وملحقاتها أثبت وجوده قوة جديدة في المنطقة، سرعان ما وجدت اهتمام واعتراف القوى العظمى عبر الاتفاقيات التي وقعتها معه، والتي كان عبد العزيز يهدف من ورائها إلى انتزاع الاعتراف به وبحدود دولته وتأمين وحدتها، وهو ما نجح فيه.
وضع الملك عبد العزيز أسساً راسخة لدولة حديثة، ينبني عليها التطور الطبيعي الذي يأتي بعده، وقد بلغت أجهزة دولته رقياً يتماشى مع متطلبات العصر، ونجد أن الملك عبد العزيز رغم غياب أنظمة دستورية في العالم العربي في تلك الفترة، باستثناء الدستور المصري لعام 1922م ليتخذها مرجعاً في بناء مؤسسات دولته، ورغم تجربة الملك عبدالعزيز التي انحصرت في واقعه المحيط به قد استطاع بعبقريته إنشاء مؤسسات للدولة لا تقل في طبيعة بنائها عن الأجهزة الموجودة في الدول المتقدمة، إذ توصل لنظام يفصل بين السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية، وقد كان لمجلس الشورى– المسؤول عن إصدار التشريعات بالبلاد– دوراً استشارياً يشابه إلى حد كبير المجالس الاستشارية و البرلمانية الموجودة في الدول المتقدمة.
وعند دخول الحجاز أكد الملك عبد العزيز على وحدة أراضي دولته، فكانت "التعليمات الأساسية للمملكة الحجازية" دستوراً بالمعنى المعاصر، تخضع له أجزاء الدولة الفتية، مؤكداً على أن "المملكة مرتبطة بعضها ببعض ارتباطاً لا يقبل التجزئة ولا الانفصال بوجه من الوجوه"، كما جاء في نص هذه التعليمات.
وكان تجاوب عبد العزيز مع مستجدات عصره ومع الأوضاع الجديدة سريعاً؛ فحين دخل الحجاز استفاد من التجربة المتقدمة نسبياً، وجعل من بعض أوجهها أساساً ترتكز عليه النهضة الحضارية في البلاد، كاستفادته من الهيكل التعليمي الذي كان موجوداً بالحجاز، فعمل على تطويره ليمتد على مستوى بقية أجزاء المملكة، واستفاد من تجارب العالم حوله على الصعيد العلمي والاقتصادي والسياسي، فتطورت بلاده اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وعزز مكانتها في العالم وأكدّ على مهمتها في العالمين العربي والإسلامي.
وقد كان توحيد المملكة وربط أجزائها و وضعها تحت دولة موحدة هو نفسه فكرة متقدمة، إذ لم يكتف عبد العزيز بتبعية المناطق التي فتحها، وإنما جعل منها كياناً موحداً يخضع للمؤسسات والأجهزة التي وضعها، أدى هذا الهيكل المتماسك إلى وضع أسس الاستقرار، واستفاد منه الشعب السعودي في تحقيق نضجه السياسي، وعلى هديه سار أبناؤه، الذين تولوا الحكم من بعده، في طريق استكمال مسيرة البناء، مواكبة لتطور عالمنا، وتضمن للمملكة مكانتها على الصعيدين العربي والإسلامي وعلى الساحة الدولية.
وحين رحل عبدالعزيز لم تكن الجزيرة العربية شتاتاً من القبائل، ولا إمارات منقسمة ومتحاربة، وإنما دولة معاصرة تدين ببنيتها لهذا الرجل العبقري الفذ السابق لأوانــه.