سلسلة القواعد والضوابط الفقهية وتطبيقاتها في بداية المجتهد.
--------------------------------------------------------------------------------
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد فهذه سلسلة مباركة من القواعد والضوابط الفقهية المسلولة من كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد، للإمام ابن رشد الحفيد رحمه الله، معروضة على أنظار الأساتذة وطلبة العلم بتطبيقاتها، أرجو بها وجه الله عز وجل. ولكل فاضل أن يصوب ما يراه غلطا، وباب المناقشة مفتوح لكل منصف نصوح.
تعريف القاعدة الفقهية لغة واصطلاحا
القاعدة أصل الأس، والقواعد الأسس، وقواعد البيت أساسه، وقد جاء في محكم التنزيل قول الله عز وجل: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) [البقرة 127]، وقوله سبحانه : (فأتى الله بنيانهم من القواعد). [النحل 26].
وقواعد الهودج خشباته الجارية مجرى قواعد البناء. وقواعد السحاب أصولها المعترضة في آفاق السماء، شبهت بقواعد البناء. وذكر ابن الأثير أن المراد بقواعد السحاب: ما اعترض منها وسفل، تشبيها بقواعد البناء.
وتطلق القاعدة على الضابط والأمر الكلي المنطبق على جزئيات .
وللقاعدة معان أخرى في اللغة، فهي المرأة المسنة التي قعدت عن الحيض والتزوج ، قال الله تعالى: (والقوعد من النساء التي لا يرجون نكاحا). [النور 60].
أما القاعدة في الاصطلاح فقد اختلفت فيها التعريفات:
قال الجرجاني: (القاعدة قضية كلية منطبقة على جميع جزئياتها) .
وقال حلولو: (القاعدة هي الأمر الكلي المنطبق على الجزئيات لتعرف أحكامها منها) .
وعرفها سعد الدين التفتازاني بأنها: (حكم كلي ينطبق على جزئياته لتعرف أحكامها منه) .
وكل تعريفات المتقدمين تدور في فلك هذه الثلاثة، فمنهم من عرفها بالأمر ومنها من عرفها بالحكم ومنهم من عرفها بالقضية.
وينبغي هنا الإشارة إلى أمرين:
أولهما أن التعبير عن القاعدة بالحكم بدل القضية سليم من حيث إن الحكم هو معظم القضية وأهم ما فيها، لأنه مناط التصديق والتكذيب، ووجوده يستلزم وجود الطرفين: المحكوم به والمحكوم عليه .
ثانيهما أن القاعدة إما أن تطبق على جميع الفروع التي تدخل تحتها وإما أن تشمل غالب الجزئيات أو أكثرها، ويخرج عنها بعض الفروع والجزئيات التي تعتبر استثناءات، وقد تطبق عليها قاعدة أخرى، ولذلك عبر البعض بأن القاعدة : حكم أكثري لا كلي، والبعض بأنها : قواعد أغلبية، ولكن خروج بعض هذه الفروع لا يضر ولا يؤثر في القاعدة، بحيث لا تختل كليتها وعمومها من حيث المجموع، لأن كل قاعدة أو مبدإ أو أصل له استثناء وهذا الاستثناء لا يغير من حقيقة الأصل أو المبدإ.
وهذه التعريفات للقاعدة لا تفرق بين القاعدة الفقهية وغيرها من نحوية وأصولية ونحو ذلك في سائر العلوم، فهي إذن تعريفات من جهة الاصطلاح العام.
وقد حاول الباحثون المعاصرون وضع حد جامع مانع للقاعدة الفقهية، فعرفها الدكتور محمد الروكي بقوله: (حكم كلي مستند إلى دليل شرعي، مصوغ صياغة تجريدية محكمة، منطبق على جزئياته على سبيل الاطراد أو الأغلبية) .
وعرفها الدكتور إسماعيل علوان بأنها: (حكم كلي مصوغ في ألفاظ موجزة - غالبا - ينطبق على جميع جزئياته أو أغلبها في أبواب متعددة لتعرف أحكامها منه) .
وعرفها الدكتور محمد الزحيلي بقوله: (القاعدة قضية كلية يدخل تحتها جزئيات كثيرة، وتحيط بالفروع والمسائل من الأبواب المتفرقة) .
وهذه في نظري أقرب تعريفات المعاصرين للقاعدة الفقهية، ولكن يمكن الخروج منها بتعريف أوجز وأخصر وهو: (القاعدة الفقهية حكم شرعي كلي منطبق على جزئيات من أبواب متفرقة).
فقولي: (حكم شرعي كلي) يفيد أن القاعدة الفقهية هي نفسها حكم شرعي مستنبط من الدليل الشرعي، والكلية المعبر بها في التعريف يراد بها الشمول النسبي، وقد يكون لجميع الأفراد دون استثناء وقد يكون لعامتها فيكون الحكم للأغلب، وهذا لا ينقص من حقيقة القاعدة وكليتها لأن ما قارب الشيء يعطى حكمه.
من هنا نعلم أنه يمكن الاستغناء عن قول الدكتور الروكي: (على سبيل الاطراد أو الأغلبية) على ما درج عليه المتقدمون في تعريفاتهم.
وقولي: (حكم شرعي) أفضل- والله أعلم- من قوله: (مستند إلى دليل شرعي) لأنه أوجز، وكل حكم شرعي يستند بالضرورة إلى دليل شرعي.
وقولي: (منطبق على جزئيات) ضروري في تعريف القاعدة وإلا كان الحكم جزئيا إذا لم يستوعب ويشمل الجزئيات جميعها.
وقولي: (من أبواب متفرقة) احتراز به عن الضابط الفقهي الذي يجمع فروعا في باب فقهي واحد.
هذا، ويمكن الاستغناء عن قول الدكتور الروكي: (مصوغ صياغة تجريدية محكمة) لأنه داخل في مسمى القاعدة بمعناها العلمي، وكذلك عن قول الدكتور إسماعيل علوان: (مصوغ في ألفاظ موجزة -غالبا-) لأنه زائد يستقيم التعريف بدونه.
ومن هنا يتضح أن تعريف الدكتور محمد الزحيلي أقرب إلى الدقة، لو أضيف إليه كون القاعدة حكما أوقضية- على حد تعبيره- شرعية، وإنما زاد هو على حدود المتقدمين ممن عرف القاعدة بقوله: (وتحيط بالفروع والمسائل من الأبواب المتفرقة) ليخرج به الضابط.
وخلاصة القول: إن تعريفات المتقدمين صحيحة جامعة مانعة إذا أضيف إليها كون الحكم شرعيا ليخرج به القاعدة لدى كل فن من الفنون غير الفقه، وكون الجزئيات المندرجة في هذا الحكم هي من أبواب متفرقة ليخرج الضابط الفقهي، والله أعلم.
يتبع بإذن الله.