القاعدة الأساسية الأولى: اليقين لا يزول بالشك.
الألفاظ الأخرى للقاعدة:
اليقين لا يزال بالشك .
من شك هل فعل شيئا أولا، فالأصل أنه لم يفعله .
من تيقن الفعل وشك في القليل أو الكثير عمل على القليل، لأنه المتيقن .
اليقين لا يرفع بالشك.
أدلة القاعدة :
مستند هذه القاعدة قوله تعالى: (( إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه، أخرج منه شيء أم لا، فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا )) .
وقوله عليه الصلاة والسلام: (( إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى، أثلاثا أم أربعا، فليطرح الشك وليبن على ما استيقن )) .
وحديث عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه، إذ سأل رسول الله عن أحكام الصيد، فكان مما قاله له النبي عليه الصلاة والسلام: (( ... وإن رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل )) .
معنى القاعدة:
اليقين هو العلم الذي لا تردد معه، أي الاستقرار، وهذا هو المراد من القاعدة، وليس ما يقوله علماء المعقول من أنه الاعتقاد الجازم المطابق للواقع الثابت، لأن الأحكام الفقهية إنما تبنى على الظاهر. وقد يكون الأمر في نظر الشارع يقينا لا يزول بالشك في حين أن العقل يجيز أن يكون الواقع بخلافه، وذلك كالأمر الثابت بالبينة الشرعية، فإنه في نظر الشرع يقين كالثابث بالعيان، وعليه حكم القاضي، مع أن شهادة الشهود هي مجرد خبر آحاد يجيز العقل فيها الكذب والسهو، ومع ذلك فإن هذا الاحتمال الضعيف لا يخرج ذلك عن كونه يقينا، لأنه لقوة ضعفه قد طرح أمام قوة مقابلة، ولم يبق له اعتبار في نظر الناظر، فاليقين هو الجزم بوقوع الشيء، أو عدم وقوعه.
والشك هو التردد بين النقيضين بلا ترجيح لأحدهما على الآخر، أو هو التردد في وقوع الشيء وعدم وقوعه على السواء، وبينه وبين اليقين الظن، أو الظن الغالب، وهو ترجيح أحد الطرفين على الآخر بدليل ظاهر يبني عليه العاقل أموره، لكن لم يطرح الاحتمال الآخر. والفقهاء يريدون بالشك مطلق التردد سواء كان الطرفان سواء أو أحدهما راجحا، وعلماء الأصول يفرقون بين الشك والظن.
قال الجرجاني: (الشك هو التردد بين النقيضين بلا ترجيح لأحدهما على الآخر عند الشاك، وقيل: الشك ما استوى طرفاه، وهو الوقوف بين الشيئين لا يميل القلب إلى أحدهما، فإذا ترجح أحدهما، ولم يطرح الآخر فهو ظن، فإذا طرحه فهو غالب الظن وهو بمنزلة اليقين) .
والطرف المرجوح يسمى وهماً عند الأصوليين.
وعليه يكون معنى القاعدة: أن الأمر المتيقن ثبوته لا يرتفع بمجرد طروء الشك، ولا يحكم بزواله بمجرد الشك، لأن الأمر اليقيني لا يعقل أن يزيله ما هو أضعف منه، و لا يعارضه إلا إذا كان مثله أو أقوى منه، فاليقين لا يرفع حكمه بالشك أي بالتردد باستواء أو رجحان (أي الظن)، وهو ما يؤيده العقل.
القواعد المتفرعة عنها:
قال الإمام السيوطي في الأشباه والنظائر: (اعلم أن هذه القاعدة تدخل في جميع أبواب الفقه. والمسائل المخرجة عليها تبلغ ثلاثة أرباع الفقه وأكثر) .
والقواعد المتفرعة عن هذا الأصل مما ذكره الإمام ابن رشد في كتاب بداية المجتهد ستة.
أولها: ما ثبت بالدليل الشرعي لا يرتفع بالشك .
معلوم أن الدليل الشرعي إما أن يفيد اليقين، إذا كان قطعي الثبوت، قطعي الدلالة، وإما أن يفيد الظن الراجح، أي الغالب، إذا كان ظني الثبوت أو ظني الدلالة. والظن الغالب في هذه الحالة هو بمنزلة اليقين كما قال الجرجاني آنفا.
وقد أورد ابن رشد رحمه الله تعالى فرعا لهذه القاعدة، وهو ترجيح الإمام ابن حزم رحمه الله حديث أبي أيوب الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا )) ، على حديث عبد الله بن عمر أنه قال: (( ارتقيت على ظهر بيت أختي حفصة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا لحاجته على لبنتين مستقبل الشام مستدبر القبلة )) ، على اعتبار أن حديث أبي أيوب الأنصاري فيه شرع موضوع وحديث ابن عمر موافق للأصل الذي هو عدم الحكم ولم يعلم المتقدم منهما من المتأخر والحال أنهما متعارضان، قال الإمام ابن رشد: (لأنه إذا تعارض حديثان أحدهما فيه شرع موضوع والأخر موافق للأصل الذي هو عدم الحكم ولم يعلم المتقدم منهما من المتأخر وجب أن يصار إلى الحديث المثبت للشرع، لأنه قد وجب العمل بنقله من طريق العدول، وتركه الذي ورد أيضا من طريق العدول يمكن أن يكون ذلك قبل شرع ذلك الحكم، ويمكن أن يكون بعده، فلم يجز أن نترك شرعا وجب العمل به بظن لم نأمر أن نوجب النسخ به إلا لو نقل أنه كان بعده، فإن الظنون التي تستند إليها الأحكام محدودة بالشرع].
وقد استحسن الإمام ابن رشد هذه الطريقة بقوله : [وهذه الطريقة التي قلناها هي طريقة أبي محمد بن حزم الأندلسي، وهي طريقة جيدة مبنية على أصول أهل الكلام الفقهي، وهو راجع إلى أنه لا يرتفع بالشك ما ثبت بالدليل الشرعي].
كما أورد هذه القاعدة في مسألة جواز الاحتجام للصائم، وفيه تعارض حديث ثوبان ورافع بن خديج أنه عليه الصلاة والسلام قال : <أفطر الحاجم والمحجوم> وحديث ابن عباس <أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم>.
فعلى طريقة من يرجح، حديث ثوبان حجة في الباب مادام أنه موجب حكما وحديث ابن عباس رافعه والموجب مرجح عند كثير من العلماء على الرافع، وحديث ثوبان قد وجب العمل به، وحديث ابن عباس يحتمل أن يكون ناسخا أو منسوخا، وذلك شك، والشك لا يوجب عملا ولا يرفع العمل الموجب للعمل.